كتاب صفة الجنة لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

352 - قال بعض الحكماء ما أخرك أيها التعب في عيش لا يدوم بقاؤه ولا يصفو من الأحداث والغير أقذاؤه. عما ندبك إليه القرآن وهتك لك عنه حجاب السلوك لعله قعدك بك عن ذلك نظرك في وجنة ميتة تزيل الأمراض غضارة كمالها وتبترها الأحداث شكل جمالها ويبلى وفي التراب غض جديتها ويعفر البلى رونق صورتها أفيها كلفت وقنعت بالنظر إليها أم بدار خلقت جده بدنك في نفس رواقها وجهدت نفسك وتعبت في تزويقها وستور تعفرها الرياح والأيام موكلة بتمزيقها اعتضت بهذا وليس بباق لك من دار الحياة ومحلة نفيت عنها والمنون ودوائر الغير وحجبها ربك بدوام النعيم عن التنغص والخدم وحشاها بأنواع سرور لا يبور.
ويحك فأجب ربك تبارك وتعالى إذ دعاك إلى جواره وارغب إليه لترافق أولياءه في داره في عرصة حفت بالنعيم وخص أهلها بالإكرام وسماها ربك عز وجل إذ بناها بيده دار السلام وملأها منا خواطر القلوب فظفر بسؤال أهلها من الله عز وجل باختصاصها وأنزل منى الشهوات عن أكناف عرصاتها دار وافت جزاء الأبرار الذين خلعوا له الراحة ووفوا بالميثاق. ودار أسسها بالذكر إذ بناها ورفع بالدر والياقوت شرف ذراها وكسا كثبان المسك الأذفر والعنبر الأشهب في قبابها ونجدها بالزرابي من خيامها وبسط العبقري في بطون رحابها وزينها برفاف استبرقها وحف فرشها بالديباج بنمارقها وكساها جلبابا من نور عرشه فأزهرت وما فيها فلو تسفر للشمس لمست بلآلئها ولو برزت هذه تبقى أن تباهيها لانكدرت وأظلمت في نور علاليها.
وصفقت في صدور تلك الخيام أسرة مكللة بالجوهر موصلة بقضبان اللؤلؤ والياقوت الأحمر تسير بأولياء الله عز وجل مع الخفرات الأوانس في أروقة اللؤلؤ بين تلك الحلل على فرش الاستبرق وطرائف المجالس مع اللواتي يكاد ينحسر عن ماء وجانهن نواظر العيون ويدله الفكر دون الظفر بصفة ولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون فكيف بالبيضاء المكنونة في قبابها القاصرة الطرف المحبوسة في خبائها والآنسة المكللة في قصورها فأين مشتاق إلى نزول دارها فيبذل الجهد ليسكن الجنة مع حورها وينعم في غرفاتها ومنازل في مقاصيرها وتجئه الملائكة بالبشارة من ربهم حين يفد عليها وتبدره إلى زوجته ليسرها به قبل أن يصل إليها فيلبسنها الوصائف حللا جنيت من أكمام شجرها ويحلينها بمراسل من نفيس جوهرها في سلوك اللؤلؤ الرطب يسطع نوره في نحرها ويشرق يتلألأ الحسن جيدها وينظم الياقوت مع فاخر زبرجدها ويسبل ستور الدر على ضوء خدها والوشاح قد أرسل على لين صدرها وعيناها تبارى صفاء حسن درها وكأنما النور سكن بين مفارق شعرها إذا خطت خلت المسك يفور من أذيالها والعنبر الأشهب من بين حللها فمن يصفها
ملتحفة أكاليلها إذا اعتجرن بالأردية ورياط نورها ورفلت بينهن لترقى على سريرها تتهادى وتتسنىوتسحب أطرف ذؤابتها وتميل وترنح بين كرام وصائفها وتصعد إلى المحبور فوق سرير ملكها فتعانقه ويعانقها عمر الدنيا لا يملها كلا وربي بل يزداد عجبا بها كلما أطال اعتناقه لها لأنها تضاعف حسنا في عينه ويضاعف حسنا في عينها فكيف إذا نازعها كاس معين على أنهارها وجئته بضبائر ريحان مضمخة بعنبرها وأتاه رسول من ربه عز وجل بتحفة فهي بها ضجيعة وهم بشهوة فصارت في فيه قبل أن يطلبها وأحب أخرى فتحولت تلك على طعمها وخطرت ثالثة فوجد بينهما لذتها فلم يزل طعم واحدة من لهواته منهن على حالها والتفت إلى الرضية فقلب بكفه حسن كفها ونظر إلى وجهه في ضوء سوالفها وهم بكسوة فتغلفت أكمام شجر دانية عليها وتطايرت منها الحلل فتهوي إليهما وقد حاز ناظره جميع ألوان كساها مزية لون الألوان التي تليها وطي تلك الأعكان تزين ما عليها وضوء النور يتلألأ من أشفار عينها ويحسب النور يجري إذا اتكت في صدر بهوها ولجة تكفا هناك من ماء وجهها
فيا مغرور يلهو أو لا يرغب فيها ويغفلها جهلا ولا يطيع باريها لو كان لي عزم لذبت خوفا وحرقا ولطار قلبي إلى الجنة شوقا ولكني حليف أماني عزمي غرور عميت عما نظر إليه المتقون الذين أخلصوا لله تعالى عزم نياتهم وصدقوا في مجهود طاعتهم وتقربوا إليه بالإخلاص في أعمالهم وناطوا التعب بالدأب في صيامهم وأوصلوا لهيب الجوع إلى أجوافهم مع خشن قاسوه على أبدانهم وحموا أنفسهم عن التمتع بما أحل لهم ويمموا إلى خلد دار نظروا إلى سرورها بأبصار اعتبارهم فسلموا جفون أعينهم على نواظر العيون وقد كحلوا بمضيض السهر وسلوا عن الغمض بطول الفكر فيما أمامهم من الأهوال العظام والأخطار الجسام فاستكنت كنايز الفكر في قلوبهم فكادت تنفطر عندما ازدحم عليها من هول يوم الوعيد.

الصفحة 423