كتاب الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

ثُمَّ نَظَرَ إِلَى وَجْهِ ابْنِهِ, فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ, فَقَطَرَتْ قَطْرَةً مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى خَدِّ الْغُلاَمِ, فَانْتَبَهَ لَهَا, فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ يَبْكِي, فَقَالَ: يَا أَبَه, أَنْتَ تَبْكِي, وَأَنْتَ تَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ لِي؟ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا خَيْرًا لِي, وَأَنْتَ تَبْكِي, وَقَدْ نَفَدَ الطَّعَامُ وَالْمَاءُ, وَبَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ فِي هَذَا الْمَكَانِ, فإِنْ ذَهَبْتَ وَتَرَكْتَنِي عَلَى حَالِي ذَهَبْتَ بِهَمٍّ وَغَمٍّ مَا بَقِيَتَ, وَإِنْ أَقَمْتَ مَعِي مُتْنَا جَمِيعًا؟ فَكَيْفَ عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا خَيْرًا لِي, وَأَنْتَ تَبْكِي؟ قَالَ: أَمَّا بُكَائِي يَا بُنَيَّ, فَوَدِدْتُ أَنِّي أَفْتَدِيكَ بِجَمِيعِ حَظِّي مِنَ الدُّنْيَا, وَلَكِنِّي وَالِدٌ وَمِنِّي رِقَّةُ الْوَالِدِ, وَأَمَّا مَا قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا خَيْرٌ لِي؟ فَلَعَلَّ مَا صُرِفَ عَنْكَ يَا بُنَيَّ, أَعْظَمُ مِمَّا ابْتُلِيتَ بِهِ, وَلَعَلَّ مَا ابْتُلِيتَ بِهِ, أَيْسَرُ مِمَّا صُرِفَ عَنْكَ، فَبَيْنَا هُوَ يُحَاوِرُهُ, إِذْ نَظَرَ لُقْمَانُ هَكَذَا أَمَامَهُ, فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ الدُّخَانَ وَالسَّوَادَ, فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَمْ أَرَ شَيْئًا, ثُمَّ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ, وَلَكِنْ لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْدَثَ رَبِّي مِمَّا رَأَيْتُ شَيْئًا, فَبَيْنَا هُوَ يَتَفَكَّرُ فِي هَذَا, إِذْ نَظَرَ أَمَامَهُ, فَإِذَا هُوَ بِشَخْصٍ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ, عَلَيْهِ ثِيَابٌ بَيَاضٌ وَعِمَامَةٌ بَيْضَاءُ, يَمْسَحُ الْهَوَاءَ مَسْحًا, فَلَمْ يَزَلْ يَرْمُقُهُ بِعَيْنِهِ حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَرِيبًا, فَتَوَارَى عَنْهُ, ثُمَّ صَاحَ بِهِ, فَقَالَ: أَنْتَ لُقْمَانُ؟ قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: أَنْتَ الْحَكِيمُ؟ قَالَ: كَذَلِكُ يُقَالُ, وَكَذَلِكَ بَعَثَنِي رَبِّي, قَالَ: مَا قَالَ لَكَ ابْنُكَ هَذَا السَّفِيهُ؟ قَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ, مَنْ أَنْتَ؟ أَسْمَعُ كَلاَمَكَ وَلاَ أَرَى وَجْهَكَ, قَالَ: أَنَا جِبْرِيلُ, لاَ يَرَانِي إِلاَّ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ, أَوْ نَبِيُّ مُرْسَلٌ، لَوْلاَ ذَلِكَ لَرَأَيْتَنِي, فَمَا قَالَ لَكَ ابْنُكَ هَذَا السَّفِيهُ؟ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ فِي نَفْسِهِ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ جِبْرِيلُ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَهُ ابْنِي مِنِّي,
فَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لِي بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِكُمَا عِلْمٌ إِلاَّ أَنْ حَفِظْتُكُمَا, أَتونِي وَقَدْ أَمَرَنِي رَبِّي بِخَسْفِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَمَا يَلِيهَا وَمَنْ فِيهَا, فَأَخْبَرُونِي أَنَّكُمَا تُرِيدَانِ هَذِهِ الْمَدِينَةَ, فَدَعَوْتُ رَبِّي أَنْ يَحْبِسَكُمَا عَنِّي بِمَا شَاءَ, فَحَبَسَكُمَا اللَّهُ عَنِّي بِمَا ابْتَلَى بِهِ ابْنَكَ, وَلَوْلاَ مَا ابْتُلِيَ بِهِ ابْنُكَ لَخَسَفْتُ بِكُمَا مَعَ مَنْ خَسَفْتُ, قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى قَدِمِ الْغُلاَمِ, فَاسْتَوَى قَائِمًا, وَمَسَحَ يَدَهُ عَلَى الَّذِي كَانَ فِيهِ الطَّعَامُ, فَامْتَلَأَ طَعَامًا, وَمَسَحَ يَدَهُ عَلَى الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَاءُ, فَامْتَلَأَ مَاءً, ثُمَّ حَمَلَهُمَا وَحِمَارَيْهِمَا, فَزَجَلَ بِهِمَا وَحِمَارَيْهِمَا كَمَا يُزْجَلُ الطَّيْرُ, فَإِذَا هُمَا فِي الدَّارِ الَّتِي خَرَجَا مِنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ وَلَيَالِي.

الصفحة 83