كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 4)

" صفحة رقم 102 "
ونحا الجبائي في فهم هذه الآية منحى آخر غير هذا فقال : كانوا يستمعون القراءة ليتوصلوا بسماعها إلى معرفة مكان الرسول بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه ، فعند ذلك كان الله يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة وتثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد بقوله : ) أَوْ كَصَيّبٍ وِقْراً ). وقيل : إن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم الله قلبه بعلامة مخصوصة تستدل الملائكة برؤيتها على أنهم لا يؤمنون ، وإذا ثبت هذا فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان . وقيل : لما أصرُّوا على الكفر صار عدولهم عن الإيمان كالكنان المانع عن الإيمان فذكر تعالى ذلك كناية عن هذا المعنى . وقيل : لما منعهم الإلطاف التي إنما تصلح أن يفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم وفوّضهم إلى أنفسهم ليسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه ، فيقول : ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ). وقيل : يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وقالوا : قلوبنا في أكنة وهذه الأقوال كلها تعزى إلى الجبائي وهي كلها فرار من نسبة الجعل إلى الله حقيقة فتأوّلوا ذلك على هذه المجازات البعيدة ، وقد نحا الزمخشري منحى بعض هذه الأقوال فقال : الأكنة على القلوب والوقر في الآذان تمثيل نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله : ) وَجَعَلْنَا ( للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه ، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ؛ انتهى . وهو جار على مذهب أصحابه المعتزلة ، وأما عند أهل السنة فنسبة الجعل إلى الله حقيقة لا مجاز وهي مسألة خلق الأعمال يبحث فيها في أصول الدّين . قال ابن عطية : وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله .
( وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ( لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم حتى كأن على محالها أكنة ولا بسماعهم حتى كأن ) أَوْ كَصَيّبٍ وِقْراً ( انتقل إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع ، فنفى ما يترتب على إدراكها وهو الإيمان والرؤية هنا بصرية والآية كانشقاق القمر ونبع الماء من أصابعه ، وحنين الجذع وانقلاب العصا سيفاً والماء الملح عذباً وتصيير الطعام القليل كثيراً وما أشبه ذلك . وقال ابن عباس : ) كُلُّ ءايَةٍ ( كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة ؛ انتهى . ومقصود هذه الجملة الشرطية الإخبار عن المبالغة التامّة والعناد المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشيء المرئي الدال على صدق الرسول حقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه ، بل يرتبون عليه ضد مقتضاه .
( حَتَّى إِذَا جَاءوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( ) يُجَادِلُونَكَ ( أي يخاصمونك في الاحتجاج وبلغ تكذيبهم في الآيات إلى المجادلة ، وهذا إشارة إلى القرآن وجعلهم إياه من ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( قدح في أنه كلام الله . قيل : كان النضر يعارض القرآن بإخبار اسفنديار ورستم . وقال ابن عباس : مجادلتهم قولهم : تأكلون ما قلتم ولا تأكلون ما قتل الله ؛ انتهى . وهذا فيه بعد وظاهر المجادلة أنه في المسموع الذي هم يستمعون إلى الرسول بسببه وهو القرآن ، والمعنى أنهم في الاحتجاج ؛ انتهى . أمرهم إلى المجادلة والافتراء دون دليل ، ومجيء الجملة الشرطية ) إِذَا ( بعد ) حَتَّى ( كثير جدًّا في القرآن ، وأوّل ما وقعت فيه قوله : ) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ ( وهي حرف ابتداء وليست هنا جارة ل ( إذا ) ولا جملة الشرط جملة الجزاء في موضع جر وليس من شرط ) حَتَّى ( التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ ، بل تكون تصلح أن يقع بعدها

الصفحة 102