كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 4)

" صفحة رقم 125 "
وإنما جرد الطائر لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان أبلغ في القدرة وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض ، إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها ، والهواء جسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإلهية ، ولذلك قال تعالى : ) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ ( في جو السماء ) مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ ( وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لما كان لفظ من دابة وهو المتصرف أتى بالمتصرف فيه عاماً وهو الأرض ، ويشمل الأرض البر والبحر ، ويطير بجناحيه تأكيد لقوله ) وَلاَ طَائِرٍ ( لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه ، وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله ) وَلاَ طَائِرٍ ( لو اقتصر عليه ، ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله : ) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( وقولهم : ( طار لفلان كذا في القسمة ) أي سهمه ، و ( طائر السعد والنحس ) وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب . وجاء الوصف بلفظ ( يطير ) لأنه مشعر بالديمومة والغلبة ، لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير ، وقلَّ ما يسكن ، حتى إن المحبوس منها يكثر وُلُوعه بالطيران في المكان الذي حبس فيه من قفص وغيره .
وقرأ ابن أبي عبلة ( ولا طائر ) بالرفع ، عطفاً على موضع ( دابة . وجوزوا أن يكون ( في الأرض ) في موضع رفع صفة على موضع دابة ، وكذلك يقتضي أن يكون ( يطير ) ويتعين ذلك في قراءة ابن أبي عبلة ، والباء في ( بجناحيه ) للاستعانة كقوله : ( كتبت بالقلم ) و ( إلا أمم ) هو خبر المبتدأ الذي هو من دابة ولا طائر وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفرداً حملاً على المعنى لأن المفرد هنا للاستغراق والمثلية هنا .
قال الزمخشري أمثالكم مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم انتهى .
وقال ابن عطية مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر .
وقال الطبري وغيره وهو مرويٌّ عن أبي هريرة واختيار الزجاج المماثلة في أنها تجازي بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض ، على ما روي في الأحاديث .
وقال مكيّ في أنها تعرف الله تعالى وتعبده . وهذا قول أبي عبيدة ، قال معناه إلا أجناس يعرفون الله ويعبدونه . ونقله الواحدي عن ابن عباس أن المماثلة حصلت من حيث إنهم يعرفون الله ويوحدونه ويحمدونه ويسبحونه . وإليه ذهبت طائفة من المفسرين محتجين بقوله : ) وَإِن مّن شَىْء لا يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( وبقوله في صفة الحيوان كل قد علم صلاته وتسبيحه وبما به خاطب النمل وخاطب الهدهد .
قال ابن عطية في قول مكي وهذا قول خلف انتهى .
وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون المماثلة في كونها أمماً لا غير . كما تريد بقولك : مررت برجل مثلك أي بي إنه رجل . ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه أن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمماً .
وقال مجاهد إلا أصناف مصنفة .
وقال أبو صالح عن ابن عباس : المماثلة وقعت بينها وبين بني آدم من قبل أن بعضهم يفقه عن بعض .
وقال ابن عيسى أمثالكم في الحاجة إلى مدبر يدبرهم فيما يحتاجون إليه من قوت يقوتهم وإلى لباس يسترهم ، وإلى سكنَ يواريهم . وروي عن أبي الدرداء أنه قال : أبهمت عقول البهم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء : الإله سبحانه وتعالى وطلب الرزق ، ومعرفة الذكر والأنثى ، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه .
وقيل المماثلة في كونها جماعات مخلوقة يشبه بعضها بعضاً ، ويأنس بعضها ببعض وتتوالد كالإنس .
وروي أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة أنه قرأ هذه الآية وقال ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم ، فمنهم من يقدم إقدام الأسد

الصفحة 125