كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 4)

" صفحة رقم 73 "
بين الخلق والجعل ، أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك ) وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( لأن الظلمات من الإجرام المتكافئة والنور من النار ) وَجَعَلْنَاكُمْ أَزْواجاً ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؛ انتهى . وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله : ) وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ ( لا يصح لأنهم لم يصيروهم إناثاً ، وإنما قال بعض النحويين : إنها بمعنى سمى وقول الطبري ) جَعَلَ ( هنا هي التي تتصرف في طرف الكلام كما تقول : جعلت أفعل كذا فكأنه قال : وجعل إظلامها وإنارتها تخليط ، لأن تلك من أفعال المقاربة تدخل على المبتدأ والخبر وهذه التي في الآية تعدت إلى مفعول واحد ، فهما متباينان معنى واستعمالاً وناسب عطف الصلة الثانية بمتعلقها من جمع الظلمات وإفراد النور على الصلة الأولى المتعلقة بجمع السموات وإفراد الأرض ، وتقدّم في البقرة الكلام على جمع السموات وإفراد الأرض وجمع الظلمات وإفراد النور واختلف في المراد هنا ب ) الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ( فقال قتادة والسدّي والجمهور : الليل والنهار . وقال ابن عباس : الشرك والنفاق والكفر والنور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين . وقال الحسن : الكفر والإيمان ، وهو تلخيص قول ابن عباس واستدل لهذا بآية البقرة . وقال قتادة أيضاً : الجنة والنار خلق الجنة وأرواح المؤمنين من نور ، والنار وأرواح الكافرين من ظلمة ، فيوم القيامة يحكم لأرواح المؤمنين بالجنة لأنهم من النور خلقوا ، وللكافرين بالنار لأنهم من الظلمة خلقوا . وقيل : الأجساد والأرواح . وقيل : شهوات النفوس وأسرار القلوب . وقيل : الجهل والعلم . وقال مجاهد : المراد حقيقة الظلمة والنور ، لأن الزنادقة كانت تقول : الله يخلق الضوء وكل شيء حسن ، وإبليس يخلق الظلمة وكل شيء قبيح فأنزلت رداً عليهم . وقال أبو عبد الله الرازي : فيه قولان أحدهما : أنهما الأمران المحسوسان وهذا هو الحقيقة . والثاني ما نقل عن ابن عباس والحسن قبل وهو مجاز . وقال الواحدي : يحمل على الحقيقة والمجاز معاً لا يمكن حمله عليهما انتهى ملخصاً . وقال أبو عبد الله الرازي : ليست الظلمة عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور ، والدليل عليه أنه إذا جلس اثنان بقرب السراج وآخر بالبعد منه ، فالبعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً والقريب لا يرى البعيد . ويرى ذلك الهواء مظلماً ، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية وإذا ثبت ذلك ، فنقول : عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التحقيق على النور فوجب تقديمها عليه في اللفظ ، ومما يقوي ذلك ما روي في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره .
وروى ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أنه قال : ( إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقي عليهم النور ، فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل ) . انتهى .
وقال أبو عبد الله بن أبي الفضل : قوله في الظلمة خطأ بل هي عبارة عن كيفية وجودية . مضادة للنور ، والدليل على ذلك قوله : ) وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( والعدم لا يقال فيه جعل ) ثُمَّ ( كما تقرر في اللسان العربي أصلها للمهلة في الزمان . وقال ابن عطية : ) ثُمَّ ( دالة على قبح

الصفحة 73