كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 4)

" صفحة رقم 80 "
سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته ؛ انتهى . وهو على عادته في الإسهاب وشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه ، وجاء هنا تقييد الكذب بالحق والتنفيس ب ) سَوْفَ ( وفي الشعراء فقد كذبوا فسيأتيهم لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء ، فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراداً حالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس ، فجاء بالسين والظاهر أن ما في قوله : ) لَّمّاً كَانُواْ ( موصولة اسمية بمعنى الذي والضمير في ) بِهِ ( عائد عليها . وقال ابن عطية : يصح أن تكون مصدرية التقدير ) أَنْبَاء ( كونهم مستهزئين فعلى هذا يكون الضمير في ) بِهِ ( عائد على الحق لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن ) مَا ( المصدرية اسم لا حرف ، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية .
الأنعام : ( 6 ) ألم يروا كم . . . . .
( أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً ( لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم ، أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة ، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية و ) يَرَوْاْ ( هنا بمعنى يعلموا ، لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و ) كَمْ ( في موضع المفعول ب ) أَهْلَكْنَا ( و ) يَرَوْاْ ( معلقة والجملة في موضع مفعولها ، و ) مِنْ ( الأولى لابتداء الغاية و ) مِنْ ( الثانية للتبعيض ، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله ) مِنْ ( الثانية بدلاً من الأولى وظاهر الإهلاك أنه حقيقة ، كما أهلك قوم نوح وعاداً وثمود غيرهم ويحتمل أن يكون معنوياً بالمسح قردة وخنازير ، والضمير في ) يَرَوْاْ ( عائد على من سبق من المكذبين المستهزئين و ) لَكُمْ ( خطاب لهم فهو التفات ، والمعنى أن القرون المهلكة أعطوا من البسطة في الدنيا والسعة في الأموال ما لم يعط هؤلاء الذين حضوا على الاعتبار بالأمم السالفة وما جرى لهم ، وفي هذا الالتفات تعريض بقلة تمكين هؤلاء ونقصهم عن أحوال من سبق ، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل بهم الهلاك ، فكيف لا يحل بكم على قلتكم وضيق خطتكم ؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم . وقال ابن عطية : والمخاطبة في ) لَكُمْ ( هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم وسائر الناس كافة ، كأنه قال : ) مَا لَمْ نُمَكّن ( يا أهل هذا العصر لكم ويحتمل أن يقدر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال ) إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا ( الآية . وإذا أخبرت أنك قلت لو قيل له أو أمرت أن يقال له فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ ذكر غائب دون مخاطبة ، انتهى . فتقول : قلت لزيد ما أكرمك وقلت لزيد ما أكرمه ، والضمير في ) مَّكَّنَّاهُمْ ( عائد على ) كَمْ ( مراعاة لمعناها ، لأن معناها جمع والمراد بها الأمم ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يعود على ) قَرْنٍ ( وذلك ضعيف لأن ) مّن قَرْنٍ ( تمييز ) لَكُمْ ( فكم هي المحدث عنها بالإهلاك فتكون هي المحدث عنها بالتمكين ، فما بعده إذ ) مّن قَرْنٍ ( جرى مجرى التبيين ولم يحدث عنه ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ) كَمْ ( هنا ظرفاً وأن يكون مصدراً ، أي : كم أزمنة أهلكنا ؟ أو كم إهلاكاً أهلكنا ؟ ومفعول ) أَهْلَكْنَا مِنَ قَرْنٍ ( على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع بل تدل على المفرد ، لو قلت : كم أزماناً ضربت رجلاً أو كم مرة ضربت رجلاً ؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال ، لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو المرات التي ضرب فيها رجل ، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة ) مِنْ ( لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام المراد به النفي ، والاستفهام هنا ليس محضاً ولا يراد به النفي والظاهر أن قوله ) مَّكَّنَّاهُمْ ( جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما كان من حالهم ؟ فقيل : ) مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ ). وقال أبو البقاء : ) مَّكَّنَّاهُمْ ( في موضع خبر صفة ) قَرْنٍ ( وجمع على المعنى وما قاله أبو البقاء ممكن ، ( وَمَا ( في قوله : ) مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ ( جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين ، الذي ) لَمْ نُمَكّن

الصفحة 80