كتاب الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (اسم الجزء: 4)

بالمسجد الجامع الأعظم بقُرطُبة، وتَكلَّم القاضي أبو عبد الله بن مَرْوان فأحسَنَ، وذكَرَ ما معناه: أن الأشياءَ لا بدَّ في كثير منها أن تكونَ لها جهةٌ نافعة وجهةٌ ضارّة، كالنارِ وغييى ها، فمتى غَلَبَ النافعُ على الضارّ عُمِل بحَسبِه، ومتى كان الأمر بالضِّدّ فبالضّدّ، فابتَدرَ الكلامَ الخطيبُ أبو علي بن حَجّاج وعرَّفَ الناسَ بما أُمِر به (¬1)، من أنّهم مَرَقوا من الدِّين، وخالَفوا عقائدَ المؤمنين، فنالَهم ما شاء اللهُ من الجَفَا، وتفرَّقوا على حُكم مَن يعلَمُ السرَّ وأخفى، ثم أُمِر أبو الوليد بسُكْنى اليَسَّانة، لقولِ من قال: إنه يُنسَبُ في بني إسرائيل، وأنه لا يُعرَفُ له نسَب في قبائل الأندَلُس، وعلى ما جَرى عليهم من الخَطْب فما للملوكِ أن يأخُذوا إلّا بما ظَهَر، فإليهما تنتهي البَراعةُ في جميع المعارِف، وكثير ممّن انتفَع بتدريسِهم وتعليمِهم، وليس في زمانِهما من هو بكمالِهما، ولا مِن نَسْجِ مِنوالِهما. وتفرَّق تلاميذُ أبي الوليد أيدي سَبَا.
ويذكرُ (¬2) أنّ من أسبابِ نكبتهِ هذه اختصاصَه بأبي يحيى أخي المنصُور والي قُرطُبة.
وأخبَرَ عنه أبو الحَسَن بن قَطْرَالَ أنه قال: أعظمُ ما طَرَأَ عليَّ في النَّكبة أنّي دخَلتُ أنا ووَلَدي عبدُ الله مسجدًا بقُرطُبة، وقد حانت صلاةُ العصر، فثار لنا بعضُ سَفِلةِ العامّة، فأخرَجونا منه.
وكتَبَ عن المنصُور في هذه القضيّة كاتبُه أبو عبد الله بنُ عَيّاش كتابًا إلى مَرّاكُشَ وغيرها يقولُ فيما يخُصُّ حالَهما منه: "وقد كان في سالف الدّهر قومٌ خاضوا في بحورِ الأوهام، وأقرَّ لهم عوامُّهم بشُفوفٍ عليهم في الأفهام، حيث لا داعيَ يدعو إلى الحَيّ القَيُّوم، ولا حاكمَ يفصِلُ بين المشكوكِ فيه والمعلوم، فخَلَّدوا (¬3) في العالَم صُحُفًا ما لها من خَلاق، مُسَوَّدةَ المعاني والأوراق، بُعْدُها
¬__________
(¬1) تنظر خطبته في التحريض على ابن رشد في البيان المغرب 219.
(¬2) علق في هامش ب بقصة الزرافة، وأنها من أسباب نكبته.
(¬3) يشير ابن عياش في هذه الفقرة إلى فلاسفة اليونان.

الصفحة 27