كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ كَوْنِهِ غَيْبِيًّا بِالْقِيَاسِ لَصَحَّ مَعْرِفَةُ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْقِيَاسَ فِعْلُ الْقَائِسِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعَلِّلًا وَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَلِّلًا.
وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُعَلِّلًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِغَيْرِ مَا اسْتُنْبِطَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِمَا اسْتُنْبِطَ، يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَقِّقًا فِي الْفَرْعِ إِذَا كَانَ وُجُودُهُ فِيهِ ظَنِّيًّا، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ لَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ.
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ ; لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَقَابُلِ الْأَدِلَّةِ وَتَكَافُئِهَا، وَأَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى مُوجِبًا لِلشَّيْءِ وَمُحَرِّمًا لَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَتَرَدَّدُ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ حُكْمُ أَحَدِهِمَا الْحِلُّ وَالْآخَرِ الْحُرْمَةُ، فَإِذَا ظَهَرَ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ شِبْهُ الْفَرْعِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَزِمَ الْحُكْمُ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عِلَّةٍ جَامِعَةٍ، وَالْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ عَلَى وِزَانِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ يَجُوزُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ أَوْصَافٍ، وَالْعِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِحُكْمِهَا كَاسْتِقْلَالِ الْحَرَكَةِ بِكَوْنِ الْمَحَلِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ مُتَحَرِّكًا وَاسْتِقْلَالِ السَّوَادِ بِكَوْنِ مَحَلِّهِ أَسْوَدَ وَنَحْوِهِ.
وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ لِلتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، فَقَدِ احْتَجَّ بِثَلَاثِ شُبَهٍ:
الْأُولَى: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَأْمُورُونَ بِتَعْمِيمِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ صُورَةٍ، وَالصُّوَرُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلَا تُمْكِنُ إِحَاطَةُ النُّصُوصِ بِهَا، فَاقْتَضَى الْعَقْلُ وُجُوبَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ أَنْفَى لِلضَّرَرِ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَقْلًا تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ وَدَفْعًا لِلْمَضَرَّةِ كَمَا يَجِبُ الْقِيَامُ مِنْ تَحْتِ حَائِطٍ ظُنَّ سُقُوطُهُ لِفَرْطِ مَيْلِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ السَّلَامَةُ فِي الْقُعُودِ وَالْهَلَاكُ فِي النُّهُوضِ.

الصفحة 13