كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

كَيْفَ وَإِنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ مَعْصُومَةٌ عَنِ الْخَطَأِ عَلَى مَا عُرِفَ (١) ، فَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَذْمُومًا وَمَحْذُورًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَكَانَتِ الصَّحَابَةُ مَعَ اشْتِهَارِ اخْتِلَافِهِمْ وَتَبَايُنِ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، مُخْطِئَةً، بَلِ الْأُمَّةُ قَاطِبَةً وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ.
وَعَلَى هَذَا، فَيَجِبُ حَمْلُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَمِّ الِاخْتِلَافِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِ، وَفِيمَا الْمَطْلُوبُ فِيهِ الْقَطْعُ دُونَ الظَّنِّ وَالِاخْتِلَافِ بَعْدَ الْوِفَاقِ، وَاخْتِلَافُ الْعَامَّةِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاخْتِلَافُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافِ الْمُنَاقِضِ لِلْبَلَاغَةِ عَنِ الْقُرْآنِ، لَا نَفْيُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. (٢) .
وَأَمَّا إِنْكَارُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَيَجِبُ أَيْضًا حَمْلُهُ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِيمَا سَبَقَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا بِالنَّظَرِ إِلَى مُسْتَفْتٍ وَاحِدٍ حَذَرًا مِنْ تَحَيُّرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ جَرِيرٍ (٣) لِعَلِيٍّ وَعُمَرَ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا ظَنَّهُ مِنْ إِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى فِتْنَةٍ وَثَوَرَانِ أَمْرٍ.
وَأَمَّا مَا كَتَبَهُ عَلِيٌّ إِلَى قُضَاتِهِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى خَوْفِهِ مِنِ انْفِتَاقِ فَتْقٍ بِسَبَبِ نِسْبَتِهِ إِلَى تَعَصُّبٍ لِمُخَالَفَةِ مَنْ سَبَقَ.
وَعَنِ الثَّالِثَةِ: بِاخْتِيَارِ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ حَقًّا
---------------
(١) أَيْ فِي مَبَاحِثِ الْإِجْمَاعِ مِنْ عِصْمَتِهَا فِي إِجْمَاعِهَا.
(٢) الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِ اخْتِلَافِ التَّنَاقُضِ عُمُومًا عَنِ الْقُرْآنِ، فَلَا تَنَاقُضَ فِي أَخْبَارِهِ بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا فِي أَحْكَامِهِ بَلْ هِيَ مَحْضُ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْعَدَالَةِ التَّامَّةِ، وَلَا ضَعْفَ فِي أُسْلُوبِهِ وَعِبَارَاتِهِ فَإِنَّهُ فِي ذُرْوَةِ الْكَمَالِ فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً فَكَانَ بِذَلِكَ مُعْجِزًا فِي أَخْبَارِهِ وَأَحْكَامِهِ وَحُجَجِهِ وَفِي بَرَاعَةِ أُسْلُوبِهِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّنَاقُضُ بَيْنَ آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ لِاخْتِلَافِ مَدَارِكِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ فَمُخْطِئُهُمْ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ.
(٣) جَرِيرٌ سَبَقَ تَعْلِيقًا أَنَّ فِيهِ تَحْرِيفًا وَأَنَّ الصَّوَابَ جُرَيٌّ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مُصَغَّرًا.

الصفحة 15