كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَتَرْكِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ، وَكَالْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْقِبْلَةِ حَالَ اشْتِبَاهِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَكَجَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ، وَتَحْرِيمُهُ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْهَلَاكُ (١) .
وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ، وَمَا الْحَقُّ فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا مُعَيَّنًا، كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَقِدَمِهِ وَوُجُودِ الصَّانِعِ وَعَدَمِهِ (٢) .
وَعَنِ الرَّابِعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعُدُولُ مِنْ أَصْرَحِ الطَّرِيقَيْنِ وَأَبْيَنِهِمَا إِلَى أَدْنَاهُمَا مِمَّا يَمْتَنِعُ وَيُخِلُّ بِالْبَلَاغَةِ، لَمَا سَاغَ وُرُودُ الْكِتَابِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَإِرَادَةِ الْمُعَيَّنِ، وَالْعَامَّةُ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ وَالْمُطْلَقَةُ وَإِرَادَةُ الْمُقَيَّدِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ، وَلَمَا سَاغَ أَيْضًا مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ مَعَ إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِأَلْفَاظٍ صَرِيحَةٍ نَاصَّةٍ عَلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ خِلَافَ الْوَاقِعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ فِي التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ لَا تَحْصُلُ مِنَ التَّنْصِيصِ.
وَذَلِكَ بِسَبَبِ بَعْثِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ طَلَبًا لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِهِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ فِي حَقِّ عَائِشَةَ، حَتَّى تَبْقَى الشَّرِيعَةُ مُسْتَمِرَّةً غَضَّةً طَرِيَّةً.
وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ لَا بِالْعِلَّةِ وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْفَرْعِ، فَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِمِثْلِ طَرِيقِ إِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مَعَ كَوْنِهِ مَقْطُوعًا
---------------
(١) أَقُولُ مَا ذُكِرَ وَنَحْوُهُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَلَيْسَ مِنَ التَّنَاقُضِ فِي شَيْءٍ فَإِنَّ التَّنَاقُضَ يُشْتَرَطُ فِيهِ وَحْدَةُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي لَهَا مُدْخَلٌ فِي الْحُكْمِ أَوْ كَمَا يُقَالُ وَحِدَّةُ النِّسْبَةِ، وَفِيمَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ اخْتَلَفَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِصِفَاتٍ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ فَلَا تَنَاقُضَ.
(٢) وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَلَمْ يَعْرِفِ التَّارِيخَ رَجَّحَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُرَجِّحٌ كَفَاهُ أَنْ يَحْكُمَ إِجْمَالًا بِأَنَّ مَا وَافَقَ الْوَاقِعَ مِنَ الْأَقْوَالِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَ فَهُوَ الْخَطَأُ وَبِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ.

الصفحة 16