كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)
وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ قَدْ يَكُونُ بِمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنِ اعْتِبَارِهِ جُزْءًا مِنَ الدَّلِيلِ.
وَعَلَى هَذَا فَالْمَرْجُوحُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا، وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الْمَرْجُوحِ مَعَ وُجُودِ الرَّاجِحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَعَنِ السَّادِسَةِ: أَنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْيِينِ الْحَقِّ إِنْ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ اتِّبَاعُهُ قَطْعًا. (١) أَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إِلَى ظُنُونِهِمْ وَاجْتِهَادَاتِهِمْ فَلَا.
كَيْفَ وَيَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مَا إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا يَكُونُ مُعَيَّنًا، وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ الْحَرَجُ. (٢) وَعَنِ السَّابِعَةِ: بِمَنْعِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُلَازَمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ انْتِهَاءَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ إِلَى حَدٍّ يَقْطَعُ بِانْتِفَاءِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ ضَابِطُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مَغْفُورًا لَهُ مَا وَرَاءَهُ.
---------------
(١) إِنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْيِينِ الْحَقِّ إِلَى آخِرِهِ، مُرَادُهُ أَنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ حَصْرِ الْحَقِّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِنْ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ اتِّبَاعُهُ عَيْنًا، إِلَخْ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِي الشُّبْهَةِ.
(٢) حُكْمُ اللَّهِ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ وَالِاجْتِهَادِيَّةِ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَلَوْ وُفِّقَ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ لَكَانَ أَرْفَقَ بِهِمْ وَأَيْسَرَ لَهُمْ عَمَلًا، وَأَبْعَدَ عَنِ الْمَشَاكِلِ الَّتِي تُوَلِّدُ الْحَزَازَاتِ، وَتُورِثُ الْأَزَمَاتِ، وَإِنَّ الِاخْتِلَافَ ضَرُورَةٌ نَشَأَتْ مِنِ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ الْفِكْرِيِّ وَالتَّفَاوُتِ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ، فَعَذَرَ اللَّهُ مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ وَرَفْعًا لِلْآصَارِ عَنْهُمْ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
الصفحة 196