كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

كَالظَّنِّ الْحَاصِلِ بِنُزُولِ الْمَطَرِ عِنْدَ طُلُوعِ الْغَيْمِ وَتَكَاثُفِهِ وَدُنُوِّهِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُبُوبِ الْهَوَاءِ الْبَارِدِ، وَكَذَلِكَ ظَنُّ سُقُوطِ الْجِدَارِ بِمَيْلِهِ وَانْشِقَاقِهِ وَتَخَلْخُلِ أَجْزَائِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى لِلْقَائِلِينَ بِكَوْنِ الْعَقْلِ مُوجِبًا لِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ أَنَّ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى إِنَّمَا هُوَ الْجُزْئِيَّاتُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَ الْأَجْنَاسِ الْكُلِّيَّةِ، أَمَّا الْأَجْنَاسُ الْكُلِّيَّةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَعَلَى هَذَا فَقَدْ أَمْكَنَ التَّنْصِيصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْنَاسِ بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: " كُلُّ مَطْعُومٍ رِبَوِيٍّ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَكُلُّ قَاتِلٍ عَمْدًا عُدْوَانًا مَقْتُولٌ، وَكُلُّ سَارِقٍ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ مَقْطُوعٌ " إِلَى نَظَائِرِهِ، وَالْحُكْمُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْجِنْسِ يَكُونُ ثَابِتًا بِالنَّصِّ، وَإِنِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي إِدْرَاجِ كُلِّ وَاحِدٍ تَحْتَ جِنْسِهِ لِيَتِمَّ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِيهِ بِالنَّصِّ، فَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَحْقِيقِ مُتَعَلِّقِ الْحُكْمِ لَا أَنَّهُ قِيَاسٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقِيَاسِ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ التَّعْمِيمِ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ فَإِنَّمَا يَجِبُ التَّعَبُّدُ بِهِ أَنْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُكَلَّفًا بِالتَّعْمِيمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَى تَبْلِيغِهِ بِطَرِيقِ الْمُخَاطَبَةِ (١) .
وَمَا ذَكَرُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ (٢) عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ فِي الْكَلَامِيَّاتِ.
وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْعَقْلِ مُوجِبًا، وَعَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي التَّشْرِيعِ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِاسْتِقْرَاءِ النُّصُوصِ وَهُوَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ قُلْنَا أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَرَحْمَةً بِعِبَادِهِ. .
---------------
(١) نَعَمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُكَلَّفٌ بِالتَّبْلِيغِ فِي حُدُودِ طَاقَتِهِ بِالْمُشَافَهَةِ لِمَنِ اجْتَمَعَ بِهِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ لِمَنْ غَابَ عَنْهُ، أَوْ بِأَمْرِ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ أَنْ يُبَلِّغَهَا غَيْرَهُ، فَمَنْ بَلَغَتْهُ شَرِيعَةُ اللَّهِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْذُورٌ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضُوعَ الْبَحْثِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ وَبَيَانِهَا لِأَحْكَامِ جَمِيعِ الْوَقَائِعِ لَا فِي تَعْمِيمِ الْبَلَاغِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ.
(٢) رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي التَّشْرِيعِ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِاسْتِقْرَاءِ النُّصُوصِ وَهُوَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَرَحْمَةً بِعِبَادِهِ.

الصفحة 22