كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)
لَا غَيْرَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ تَكْلِيفُ الْعَوَامِّ الِاجْتِهَادَ فِي أَعْيَانِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا نَكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمُ اتِّبَاعَ الْمَفْضُولِ وَالِاسْتِفْتَاءَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ لَمَا جَازَ مِنَ الصَّحَابَةِ التَّطَابُقُ عَلَى عَدَمِ إِنْكَارِهِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ، وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ) (١) ، وَلَوْلَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ الْقَوْلُ بِمَذْهَبِ الْخُصُومِ أَوْلَى.
[الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اتَّبَعَ الْعَامِّيُّ بَعْضَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي حُكْمِ وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ هل يرجع إلى غيره]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
إِذَا اتَّبَعَ الْعَامِّيُّ بَعْضَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ مِنَ الْحَوَادِثِ وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ فِيهَا: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ (٢) ، وَهَلْ لَهُ ذَلِكَ فِي حُكْمٍ آخَرَ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ نَظَرًا إِلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِنْ تَسْوِيغِ اسْتِفْتَاءِ الْعَامِّيِّ لِكُلِّ عَالِمٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْحَجْرُ عَلَى الْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا لَمَا جَازَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِهْمَالُهُ وَالسُّكُوتُ عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ لَهَا حُكْمٌ لَمْ يَتَعَيَّنِ الْأَوَّلُ لِلِاتِّبَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى.
وَأَمَّا إِذَا عَيَّنَ الْعَامِّيُّ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِ وَقَالَ: أَنَا عَلَى مَذْهَبِهِ وَمُلْتَزِمٌ لَهُ، فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ غَيْرِهِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَجَوَّزَهُ قَوْمٌ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْتِزَامَهُ لِمَذْهَبٍ غَيْرِ مُلْزَمٍ لَهُ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ آخَرُونَ؛ لِأَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ الْمَذْهَبَ صَارَ لَازِمًا لَهُ كَمَا لَوِ الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَذْهَبِ الْأَوَّلِ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِهَا، فَلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ فِيهَا، وَمَا لَمْ يَتَّصِلْ عَمَلُهُ بِهَا فَلَا مَانِعَ مِنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ فِيهَا.
---------------
(١) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص ٢٣٢ ج ١، ص ١٥٠ ج٤.
(٢) حَكَى الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ فِي غَايَةِ الْوُصُولِ فِي شَرْحِ لُبِّ الْأُصُولِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَوْ أَفْتَى مُجْتَهِدٌ عَامِّيًّا فِي حَادِثَةٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فِيهَا إِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِهِ فِيهَا وَثَمَّ مُفْتٍ آخَرُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِمُجَرَّدِ الْإِفْتَاءِ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِالشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ بِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَشْرَعْ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ إِنِ الْتَزَمَهُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ إِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِحَّتُهُ، اهـ.
الصفحة 238
288