كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

وَأَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» ". (١) وَالدَّلِيلُ الْمَرْجُوحُ ظَاهِرٌ فَجَازَ الْعَمَلُ بِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْأَمَارَاتِ الظَّنِّيَّةَ الْمُتَعَارِضَةَ لَا تَزِيدُ عَلَى الْبَيِّنَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَالتَّرْجِيحُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبَيِّنَاتِ، حَتَّى أَنَّهُ لَا تُقَدَّمُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ.
قُلْنَا: أَمَّا الْآيَةُ فَغَايَتُهَا بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ، فَإِنَّ إِيجَابَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُنَافِي إِيجَابَ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا تَرَجَّحَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ وَمَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ، فَالْمَرْجُوحُ الْمُخَالِفُ لَهُ لَا يَكُونُ رَاجِحًا مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلرَّاجِحِ، فَلَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِيهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ التَّرْجِيحِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ، بَلْ عِنْدَنَا يُقَدَّمُ قَوْلُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى قَوْلِ الِاثْنَيْنِ عَلَى رَأْيٍ لَنَا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالتَّرْجِيحِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْمُتَّبَعَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أُلِفَ مِنْهُمُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي بَابِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ دُونَ بَابِ الشَّهَادَةِ.
وَأَمَّا مَا فِيهِ التَّرْجِيحُ: فَهِيَ الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبَاتِ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى: قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ.
أَمَّا الْقَطْعِيُّ: فَلَا تَرْجِيحَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِتَقْوِيَةِ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْمَعْلُومُ الْمَقْطُوعُ بِهِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَلَا يُطْلَبُ فِيهِ التَّرْجِيحُ، وَلِأَنَّ التَّرْجِيحَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ مُتَعَارِضَيْنِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوِّرٍ فِي الْقَطْعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُعَارِضَهُ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ.
الْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِمَّا الْعَمَلُ بِهِمَا، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فِي الْإِثْبَاتِ، أَوِ امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِهِمَا، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فِي النَّفْيِ، أَوِ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَا أَوْلَوِيَّةَ مَعَ التَّسَاوِي.
وَالثَّانِي: أَيْضًا مُحَالٌ لِامْتِنَاعِ تَرَجُّحِ الظَّنِّيِّ عَلَى الْقَاطِعِ، وَامْتِنَاعِ طَلَبِ التَّرْجِيحِ فِي الْقَاطِعِ.
كَيْفَ وَأَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ لَا يَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الطُّرُقِ الظَّنِّيَّةِ.
---------------
(١) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص ٨٠، ١١٧ ج ٢.

الصفحة 241