كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

قُلْنَا: إِلَّا أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ فَائِدَةُ النَّافِي التَّأْكِيدَ عَلَى تَقْدِيرِ تَقَدُّمِهِ فَالْمُثْبِتُ يَكُونُ رَافِعًا لِحُكْمٍ تَأْسِيسِيٍّ، وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى الْحَالِ الْأَصْلِيِّ، وَزِيَادَةُ مَا حَصَلَ مِنَ النَّافِي مِنَ التَّأْكِيدِ، وَلَا كَذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ النَّافِي مُتَأَخِّرًا فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ غَيْرَ التَّأْسِيسِ، وَمَا لَا يُفْضِي إِلَى رَفْعِ التَّأْسِيسِ مَعَ التَّأْكِيدِ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّا يُفْضِي إِلَى رَفْعِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُفِيدٌ لِمَا هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِالِاتِّفَاقِ، وَالنَّافِيَ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَى إِفَادَتِهِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالْغَالِبُ مِنَ الشَّارِعِ أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى غَيْرَ الشَّرْعِيِّ، فَمَعَ أَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَقْصُودٌ لِحِكْمَتِهِ؛ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَيْهَا، وَحِكْمَةُ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مَقْصُودَةً فَكَذَلِكَ حِكْمَةُ النَّفْيِ، فَهُوَ مُعَارَضٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الشَّارِعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ مِنْهُ، إِنَّمَا هُوَ التَّقْرِيرُ لَا التَّغْيِيرُ، وَعَلَى هَذَا فَالْحُكْمُ لِلنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ يَكُونُ أَوْلَى مِنَ الْمُغَيَّرِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا مَعْقُولًا وَالْآخَرِ غَيْرَ مَعْقُولٍ، فَمَا حُكْمُهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ بِتَلَقِّيهِ أَكْثَرَ لِزِيَادَةِ مَشَقَّتِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ (١) إِلَّا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ بِشَرْعِ مَا هُوَ مَعْقُولٌ أَتَمُّ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْقُولٍ؛ نَظَرًا إِلَى سُهُولَةِ الِانْقِيَادِ وَسُرْعَةِ الْقَبُولِ، وَمَا شَرْعُهُ أَفْضَى إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الشَّرْعِ يَكُونُ أَوْلَى؛ وَلِهَذَا كَانَ شَرْعُ الْمَعْقُولِ أَغْلَبَ مِنْ شَرْعِ غَيْرِ الْمَعْقُولِ، حَتَّى إِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا وَهُوَ مَعْقُولٌ حَتَّى فِي ضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَنَحْوِهِ مِمَّا ظَنَّ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْقُولِ مِنَ الْفَائِدَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَحَلِّ النَّصِّ بِالتَّعْدِيَةِ وَالْإِلْحَاقِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْمَعْقُولِ، فَكَانَ أَوْلَى.
وَمَا كَانَتْ جِهَةُ تَعَقُّلِهِ أَقْوَى كَمَا يَأْتِي وَجْهُ التَّفْصِيلِ فِيهِ فِي الْعِلَلِ، فَهُوَ أَوْلَى.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُشْتَمِلًا عَلَى زِيَادَةٍ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْآخَرِ، كَمُوجِبِ الْجَلْدِ مَعَ الْمُوجِبِ لِلْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ، فَالْمُوجِبُ لِلزِّيَادَةِ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالزِّيَادَةِ غَيْرُ مُوجَبٍ لِإِبْطَالِ مَنْطُوقِ الْآخَرِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْجَلْدِ وَإِجْزَائِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْعَمَلُ بِالْمُوجِبِ لِلْجَلْدِ فَقَطْ مُوجَبٌ لِإِبْطَالِ الْمَنْطُوقِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ الزِّيَادَةِ، وَمَا لَا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ حُكْمِ الدَّلِيلِ أَوْلَى مِمَّا يُفْضِي إِلَى الْإِبْطَالِ، وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الْمُوجِبِ لِلْجَلْدِ عَلَى نَفْيِ الزِّيَادَةِ غَيْرُ مَأْخُوذَةٍ مِنْ مَنْطُوقِ اللَّفْظِ، وَوُجُوبَ
---------------
(١) يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: " ثَوَابُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ "، وَقَدْ تَقَدَّمَ ص ١٤٠ ج ٣.

الصفحة 262