كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهَا مَصَالِحَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْمَصْلَحَةُ فِي الْفِعْلِ الْأَشَقِّ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي الْفِعْلِ الْأَخَفِّ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «ثَوَابُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ» " (١) ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الظَّنِّ إِنَّمَا هُوَ تَأَخُّرُهُ عَنِ الْأَخَفِّ؛ نَظَرًا إِلَى الْمَأْلُوفِ مِنْ أَحْوَالِ الْعُقَلَاءِ، فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ تَحْصِيلَ مَقْصُودٍ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَهُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، بَلْ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَبِتَقْدِيرِ تَقَدُّمِ الْأَخَفِّ عَلَى الْأَثْقَلِ يَكُونُ مُوَافِقًا لِنَظَرِ أَهْلِ الْعُرْفِ فَكَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ ثِقَلِهِ تَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ عَلَى مَقْصُودِ الْأَخَفِّ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ أَوْلَى.
الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَبَرَيْنِ خَبَرًا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ حُكْمَ أَحَدِهِمَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى بِخِلَافِ حُكْمِ الْآخَرِ، فَمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْكَذِبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَفَرُّدَ الْوَاحِدِ بِنَقْلِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ أَقْرَبُ إِلَى الْكَذِبِ، كَمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ. (٢) ، وَلِهَذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَمُتَّفَقًا عَلَى مُقَابِلِهِ.

[التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ]
وَأَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ:
الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ مُوَافِقًا لِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ حِسٍّ، وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ، فَمَا هُوَ عَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ الْخَارِجِ أَوْلَى لِتَأَكُّدِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِقَصْدِ مَدْلُولِهِ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى مُخَالَفَةِ مُقَابِلِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ وَاحِدٌ فَالْعَمَلُ بِمُقَابِلِهِ يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ دَلِيلَيْنِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يَلْزَمُ مَعَهُ مُخَالَفَةُ دَلِيلٍ وَاحِدٍ أَوْلَى مِمَّا يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ دَلِيلَيْنِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ أَوِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ أَوْ بَعْضُ الْأُمَّةِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا عَمِلَ بِهِ يَكُونُ أَوْلَى، أَمَّا مَا عَمِلَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَلِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالتَّنْزِيلِ وَأَخْبَرُ بِمَوَاقِعِ الْوَحْيِ وَالتَّأْوِيلِ، وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ لِحَثِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ عَلَى مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَذَلِكَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ قُوَّتُهُ فِي الدَّلَالَةِ وَسَلَامَتُهُ عَنِ الْمُعَارِضِ.
وَعَلَى هَذَا أَيْضًا مَا عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ بَعْضُ الْأُمَّةِ يَكُونُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ، فَكَانَ أَوْلَى.
---------------
(١) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص ١٤٠ ج ٤.
(٢) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْخَامِسَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ.

الصفحة 264