كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

وَفِي مَعْنَى هَذَا أَنْ يَعْتَضِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلٍ، غَيْرَ أَنَّ مَا عَضَّدَ أَحَدُهُمَا رَاجِحٌ عَلَى مَا عَضَّدَ الْآخَرُ، أَوْ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُ الْأُمَّةِ، غَيْرَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا أَعْرَفُ بِمَوَاقِعِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، فَيَكُونُ أَوْلَى.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَوَّلًا إِلَّا أَنَّ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ فِي أَحَدِهِمَا أَرْجَحُ مِنْ دَلِيلِ التَّأْوِيلِ فِي الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا دَالًّا عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ وَالْآخَرُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ الْعِلَّةِ، فَمَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلَّةِ يَكُونُ أَوْلَى لِقُرْبِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ بِسَبَبِ سُرْعَةِ الِانْقِيَادِ وَسُهُولَةِ الْقَبُولِ، وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ لَفْظِهِ، وَمِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَمَا دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ بِجِهَتَيْنِ يَكُونُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ يَلْزَمُهُ مُخَالَفَةُ مَا قَابَلَهُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْعَمَلُ بِالْمُقَابِلِ يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ الْآخَرِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ جِهَتَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى، وَرُبَّمَا رَجَّحَ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ فِي قَبُولِهِ أَشَدُّ وَالثَّوَابَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، إِلَّا أَنَّهُ مَرْجُوحٌ بِالنَّظَرِ إِلَى مَقْصُودِ التَّعَقُّلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الْأَغْلَبَ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَدُلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ إِلَّا أَنَّ دَلَالَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْعِلِّيَّةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَالْأَقْوَى يَكُونُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ الْآخَرِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَتَعَارُضُهُمَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ السَّبَبِ الْخَاصِّ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَالْوَارِدُ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبُ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِكَوْنِهِ أَمَرَ بِهِ، وَلِأَنَّ مَحْذُورَ الْمُخَالَفَةِ فِيهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَمَّا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ يَكُونُ أَتَمَّ مِنَ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْآخَرِ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ وَارِدٍ فِيهَا.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَالْعَامُّ الْمُطْلَقُ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ عُمُومَهُ أَقْوَى مِنْ عُمُومِ مُقَابِلِهِ: لِاسْتِوَائِهِمَا فِي صِيغَةِ الْعُمُومِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ بِتَخْصِيصِ مَا وَرَدَ عَلَى الْوَاقِعَةِ بِهَا؛ نَظَرًا إِلَى بَيَانِ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَإِلَى أَنَّ الْأَصْلَ إِنَّمَا هُوَ مُطَابَقَةُ مَا وَرَدَ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ لِمَا مَسَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَلِأَنَّ مَا وَرَدَ عَلَى السَّبَبِ الْخَاصِّ مُخْتَلَفٌ فِي تَعْمِيمِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ بِخِلَافِ مُقَابِلِهِ، وَعَلَى هَذَا فَمَحْذُورُ الْمُخَالَفَةِ فِي الْعَامِّ الْمُطْلَقِ يَكُونُ أَشَدَّ.

الصفحة 265