كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ، وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مِنْ أُصُولِ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ، فَمَا مَقْصُودُهُ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الضَّرُورِيَّاتِ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَهَا وَمُقَابِلُهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ يَكُونُ أَوْلَى؛ وَلِهَذَا أُعْطِيَ حُكْمَ أَصْلِهِ حَتَّى شُرِعَ فِي شُرْبِ قَلِيلِ الْخَمْرِ مَا شُرِعَ فِي كَثِيرِهِ.
السَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ حِفْظَ أَصْلِ الدِّينِ وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ (١) ، فَمَا مَقْصُودُهُ حِفْظُ أَصْلِ الدِّينِ يَكُونُ أَوْلَى نَظَرًا إِلَى مَقْصُودِهِ وَثَمَرَتِهِ مِنْ نَيْلِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ حِفْظِ الْأَنْفُسِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ أَجْلِهِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مَا يُفْضِي إِلَى حِفْظِ مَقْصُودِ النَّفْسِ أَوْلَى وَأَرْجَحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الدِّينِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقْصُودَ غَيْرِهِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ مُرَجَّحٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالْمُضَايَقَةِ، وَحُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِ حَقِّهِ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَقٍّ لَا يَتَضَرَّرُ مُسْتَحِقُّهُ بِفَوَاتِهِ، وَلِهَذَا رَجَّحْنَا حُقُوقَ الْآدَمِيِّ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوِ ازْدَحَمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَضَاقَ عَنِ اسْتِيفَائِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ كَفَرَ وَقَتَلَ عَمْدًا عُدْوَانًا نَقْتُلُهُ قِصَاصًا لَا بِكُفْرِهِ.
وَأَيْضًا قَدْ رَجَّحْنَا مَصْلَحَةَ النَّفْسِ عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ، حَيْثُ خَفَّفْنَا عَنِ الْمُسَافِرِ بِإِسْقَاطِ الرَّكْعَتَيْنِ وَأَدَاءِ الصَّوْمِ، وَعَنِ الْمَرِيضِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَتَرْكِ أَدَاءِ الصَّوْمِ، وَقَدَّمْنَا مَصْلَحَةَ النَّفْسِ عَلَى مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ فِي صُورَةِ إِنْجَاءِ الْغَرِيقِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّا رَجَّحْنَا مَصْلَحَةَ الْمَالِ عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ حَيْثُ جَوَّزْنَا تَرْكَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ضَرُورَةَ حِفْظِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، وَرَجَّحْنَا مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ الذِّمِّيِّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ حَتَّى عَصَمْنَا دَمَهُ وَمَالَهُ مَعَ وُجُودِ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ.
قُلْنَا: أَمَّا النَّفْسُ فَكَمَا هِيَ مُتَعَلِّقُ حَقِّ الْآدَمِيِّ بِالنَّظَرِ إِلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَهِيَ مُتَعَلِّقُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ إِلَى أَحْكَامٍ أُخَرَ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ وَالتَّصَرُّفُ
---------------
(١) وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مَا سِوَاهُ - أَيْ: حِفْظُ مَا سِوَى أَصْلِ الدِّينِ مِنَ النَّفْسِ وَالْمَالِ. . إِلَخْ.

الصفحة 275