كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقَائِعَ الَّتِي خَلَتْ عَنِ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، إِنَّمَا يَلْزَمُ خُلُوُّهَا عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ حُكْمًا شَرْعِيًّا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَكَانَ مُدْرِكُهُ شَرْعِيًّا وَهُوَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ وَانْتِفَاءُ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْأَحْكَامِ الْإِثْبَاتِيَّةِ فَلَا (١) .
وَإِنَّ سَلَّمْنَا أَنَّ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا (٢) ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كُنَّا مُكَلَّفِينَ بِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّارِعَ كَمَا يُورِدُ إِثْبَاتَ الْأَحْكَامِ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ قَدْ يُورِدُ نَفْيَهَا (٣) فِي بَعْضٍ آخَرَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ.
ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ أَنْ تَكُونَ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ الْخَلِيَّةُ عَنِ الِاعْتِبَارِ حُجَجًا فِي الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاقِعَةٍ يُمْكِنُ وُجُودُ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَوِ الْقِيَاسِ فِيهَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ حُجَّةً أَفْضَى ذَلِكَ أَيْضًا إِلَى خُلُوِّ الْوَقَائِعِ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِعَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَوِ الْقِيَاسِ فِيهَا، وَالْعُذْرُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ مُشْتَرِكًا (٤) .
---------------
(١) انْظُرِ الشُّبْهَةَ الْأُولَى مِنْ شُبَهِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ ص ١٣، وَمَا أَجَابَ بِهِ الْآمِدِيُّ عَنْهَا ص ٢٢ ج٤ وَانْظُرِ الْجَوَابَ أَيْضًا عَنْهَا أَوَّلَ الْجُزْءِ الثَّامِنِ مِنَ الْأَحْكَامِ لِابْنِ حَزْمٍ، طُبِعَ، مَطْبَعَةُ الْإِمَامِ.
(٢) هَذَا تَسْلِيمٌ جَدَلِيٌّ وَتَقْدِيرٌ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَعَدَمِ مُدْرِكٍ شَرْعِيٍّ سِوَاهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ.
(٣) فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ يُورِدُ، وَفِي مَخْطُوطَةِ الْمَدِينَةِ يَرِدُ، وَكَأَنَّ فِي الْجَمِيعِ تَحْرِيفًا وَلَعَلَّ الصَّوَابَ " يُرِيدُ " وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى مَا فِي الْمَطْبُوعَةِ وَالْمَخْطُوطَةِ قَدْ بُيِّنَ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا وَهُوَ خِلَافُ السِّيَاقِ، فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَا نَصَّ وَلَا إِجْمَاعَ بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا يُرِيدُ فَإِنَّهُ يَتَأَتَّى مَعَهُ تَرْكُ بَيَانِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ.
(٤) قَدْ يَلْتَزِمُ الْمُسْتَدِلُّ حُجِّيَّةَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهَا دَلِيلٌ مُعَيَّنٌ بِالِاعْتِبَارِ فَقَدْ شَهِدَتْ لَهَا مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدُهَا الْعَامَّةُ.

الصفحة 28