كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَالِاعْتِبَارُ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْقِيَاسِ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ نَقْلَ الْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْأَسْنَانِ: اعْتُبِرَ حُكْمُهَا بِالْأَصَابِعِ فِي أَنَّ دِيَتَهَا مُتَسَاوِيَةٌ، أَطْلَقَ الِاعْتِبَارَ وَأَرَادَ بِهِ نَقْلَ حُكْمِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْأَسْنَانِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَأْمُورٌ بِهِ، فَالْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْأَوَامِرِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ يَكُونُ مَشْرُوعًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ وَصِيغَةُ افْعَلُوا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْأَوَامِرِ، وَلَيْسَ جَعْلُهَا ظَاهِرَةً فِي الْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلْأَمْرِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّعَاظِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} ، وَالْمُرَادُ بِهِ الِاتِّعَاظُ إِذْ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقَائِسَ فِي الْفُرُوعِ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعَاصِي وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ ; يُقَالُ إِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ هُوَ الِاعْتِبَارَ لَمَا صَحَّ سَلْبُ ذَلِكَ عَنْهُ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ ظَاهِرٌ فِي الْقِيَاسِ لَكِنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ وَيَصْرِفُهُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَعْنَى الِاتِّعَاظِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَعْنَى الْقِيَاسِ لَمَا حَسُنَ تَرْتِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ عِنْدَ إِرَادَةِ الِاتِّعَاظِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقِيَاسُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ صِيغَةُ عُمُومٍ تَقْتَضِي الْعَمَلَ بِكُلِّ قِيَاسٍ، فَكَانَتِ الْآيَةُ مُطْلَقَةً، وَالْمُطْلَقُ إِذَا عُمِلَ بِهِ فِي صُورَةٍ أَوْ صُوَرٍ لَا يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَاهَا، ضَرُورَةُ الْوَفَاءِ وَمَعْنَاهُ بِدَلَالَتِهِ، وَقَدْ عَمِلْنَا بِذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ

الصفحة 29