كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 4)

فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ ; إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْوُصُولُ إِلَى ذَلِكَ بِطَرِيقٍ يَقِينِيٍّ، وَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ فَلَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ الْوُصُولُ إِلَى الْمَطْلُوبِ بِطَرِيقٍ يُؤْمَنُ فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ، فَالْعَقْلُ يَمْنَعُ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقٍ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْخَطَأُ، فَمَا لَمْ تُثْبِتُوا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ قَاطِعٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعِ أُمَّةٍ، فَاتِّبَاعُ الظَّنِّ يَكُونُ مُمْتَنِعًا عَقْلًا.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ إِنَّمَا يُسَوِّغُ الْعَقْلُ التَّمَسُّكَ بِالظَّنِّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ رَاجِعٌ عَلَى ظَنِّ الْقِيَاسِ مُفْضٍ إِلَى حُكْمِ الْقِيَاسِ، وَإِلَّا كَانَ الْعَمَلُ بِمَا الْخَطَأُ فِيهِ أَقْرَبُ مِمَّا تُرِكَ (١) ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى تَجْوِيزِ الْعَقْلِ لِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ وَمُعَارَضٌ.
أَمَّا النَّقْضُ فَبِصُوَرٍ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، بَلِ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ الْمِتَمَحِّضَاتِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ، بَلِ الْفُسَّاقِ مُغَلِّبٌ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي الصِّدْقَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مُدَّعِيَ النُّبُوَّةِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِقَوْلِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ وَإِنْ غَلَبَتْ عَلَى الظَّنِّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوِ اشْتَبَهَتْ رَضِيعَةٌ بِعَشْرِ أَجْنَبِيَّاتٍ أَوْ مَيْتَةٌ بِعَشْرِ مُذَكَّيَاتٍ ; لَمْ يَجُزْ مَدُّ الْيَدِ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا ; وَإِنْ وُجِدَتْ عَلَامَاتٌ بِغَلَبَةٍ عَلَى الظَّنِّ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فَمِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا:
الْأَوَّلُ: قَالَ النَّظَّامُ: إِنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ فِي أَحْكَامِهَا، وَالِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي أَحْكَامِهَا، وَالشَّارِعُ قَدْ رَأَيْنَاهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ قَضِيَّةِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى مَذَاقِ الْعَقْلِ، فَلَا يَكُونُ الْعَقْلُ مُجَوِّزًا لَهُ.
---------------
(١) وَإِلَّا كَانَ الْعَمَلُ. . . إِلَخْ - كَانَ تَامَّةٌ وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَإِلَّا وُجِدَ مِنْكُمُ الْعَمَلُ بِدَلِيلٍ الْخَطَأُ فِيهِ أَقْرَبُ مِنَ الْخَطَأِ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي تُرِكَ.

الصفحة 7