كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ «١» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَأَنْكَرَتِ الْمُلْحِدَةُ الْحَجَّ، فَقَالَتْ: إِنَّ فِيهِ تَجْرِيدَ الثِّيَابِ وَذَلِكَ يُخَالِفُ الْحَيَاءَ، وَالسَّعْيَ وَهُوَ يُنَاقِضُ الْوَقَارَ، وَرَمْيَ الْجِمَارِ لِغَيْرِ مَرْمًى وَذَلِكَ يُضَادُّ الْعَقْلَ، فَصَارُوا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا بَاطِلَةٌ، إِذْ لَمْ يَعْرِفُوا لَهَا حِكْمَةً وَلَا عِلَّةَ، وَجَهِلُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَوْلَى مَعَ الْعَبْدِ، أَنْ يَفْهَمَ الْمَقْصُودَ بِجَمِيعِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَلَا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى فَائِدَةِ تَكْلِيفِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِامْتِثَالُ، وَيَلْزَمُهُ الِانْقِيَادُ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ فَائِدَةٍ وَلَا سُؤَالٍ عَنْ مَقْصُودٍ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ: (لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ). وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا). فَقَالَ رَجُلٌ: كُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ) ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شي فَدَعُوهُ) لَفْظُ مُسْلِمٍ. فَبَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ الْخِطَابَ إِذَا تَوَجَّهَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِفَرْضٍ أَنَّهُ يَكْفِي مِنْهُ فِعْلُ مَرَّةٍ وَلَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، خلافا للأستاذ أبي إسحاق الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَغَيْرِهِ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَصْحَابَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَجُّنَا لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: (لَا بَلْ لِلْأَبَدِ). وَهَذَا نَصٌّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: يَجِبُ فِي كُلِّ خَمْسِ سِنِينَ مَرَّةً. وَقَدْ كَانَ الْحَجُّ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَرَبِ مَشْهُورًا لَدَيْهِمْ، وَكَانَ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ لِأَسْوَاقِهَا وَتَبَرُّرِهَا «٢» وَتَحَنُّفِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ خُوطِبُوا بِمَا عَلِمُوا وَأُلْزِمُوا بِمَا عَرَفُوا. وَقَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حَجِّ الْفَرْضِ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يُغَيِّرْ مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ مَا غَيَّرُوا، حِينَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ، وَنَحْنُ الْحَمْسُ «٣». حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي" الْبَقَرَةِ" «٤». قُلْتُ: مِنْ أَغْرَبِ مَا رَأَيْتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مَرَّتَيْنِ وَأَنَّ الْفَرْضَ سَقَطَ عَنْهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَجَابَ نِدَاءَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قِيلَ لَهُ:" وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ"
---------------
(١). في أ: ابن حبان، والتصويب من دو ز وب.
(٢). التبرر: الطاعة، وفى أ: نجيعها: طلب الكلا. في د: تحنفها.
(٣). الحمس جمع الأحمس، وهم قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة قيس، سموا حمسا لأنهم تحمّسوا في دينهم، أي تشددوا.
(٤). راجع ج ٢ ص ٣٤٥.
الصفحة 143