كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)

أَصَابَكُمْ." وَلا تَحْزَنُوا" عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَلَا عَلَى مَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْمُصِيبَةِ." وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ" أَيْ لَكُمْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ" إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أَيْ بِصِدْقِ وَعْدِي. وَقِيلَ:" إِنْ" بِمَعْنَى" إِذْ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: انْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد فبيناهم كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِخَيْلٍ، مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يُرِيدُ أَنْ يَعْلُوَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اللَّهُمَّ لَا يَعْلُنَّ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ لَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِكَ اللَّهُمَّ لَيْسَ يَعْبُدُكَ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ (. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَثَابَ «١» نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُمَاةٌ فَصَعِدُوا الْجَبَلَ وَرَمَوْا خَيْلَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى هَزَمُوهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ" يَعْنِي الْغَالِبِينَ عَلَى الْأَعْدَاءِ بَعْدَ أُحُدٍ. فَلَمْ يُخْرِجُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَسْكَرًا إِلَّا ظَفِرُوا فِي كُلِّ عَسْكَرٍ كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي كُلِّ عَسْكَرٍ كَانَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِيهِ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ الظَّفَرُ لَهُمْ، وَهَذِهِ الْبُلْدَانُ كُلُّهَا إِنَّمَا افْتُتِحَتْ عَلَى عَهْدِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ مَا افْتُتِحَتْ بَلْدَةٌ عَلَى الْوَجْهِ كَمَا كَانُوا يَفْتَتِحُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى:" إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى " [طه: ٦٨] «٢» وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ:" وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ". وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ اسْمِهِ الْأَعْلَى فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعَلِيُّ، وقال للمؤمنين:" وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ".

[سورة آل عمران (٣): آية ١٤٠]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) الْقَرْحُ الْجُرْحُ. وَالضَّمُّ وَالْفَتْحُ فِيهِ لُغَتَانِ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، مِثْلُ عُقْرٍ «٣» وَعَقْرٍ. الْفَرَّاءُ: هُوَ بِالْفَتْحِ الْجُرْحُ، وَبِالضَّمِّ أَلَمُهُ. وَالْمَعْنَى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ يَوْمَ بَدْرٍ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ السميقع" قرح" بفتح
---------------
(١). في ح وأ: بات.
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٢٣.
(٣). في الأصول:" قفر وقفر" وهو تحريف.

الصفحة 217