كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)
الْوَحْيِ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: أَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُمِيتَكَ! مَرَّتَيْنِ. قَدْ وَاللَّهِ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمْرُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِيَ أُنَاسٍ مِنَ المنافقين كثير وأرحلهم. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ،" وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ". قَالَ عُمَرُ:" فَلَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْهَا إِلَّا يَوْمَئِذٍ". وَرَجَعَ عَنْ مَقَالَتِهِ الَّتِي قَالَهَا فِيمَا ذَكَرَ الْوَائِلِيُّ أَبُو نَصْرٍ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْإِبَانَةِ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَمْسِ مَقَالَةً وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَمَا قُلْتُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ الْمَقَالَةَ الَّتِي قُلْتُ لَكُمْ فِي كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَلَا فِي عَهْدٍ عَهِدَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَدْبُرَنَا- يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ حَتَّى يَكُونَ آخِرَنَا مَوْتًا- فَاخْتَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ، وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا لِمَا هُدِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْوَائِلِيُّ أَبُو: نَصْرٍ الْمَقَالَةُ الَّتِي قَالَهَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا هِيَ" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ وَلَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ" وَكَانَ قَالَ ذَلِكَ لِعَظِيمِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَخَشِيَ الْفِتْنَةَ وَظُهُورَ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا شَاهَدَ قُوَّةَ يَقِينِ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ أَبِي بَكْرٍ، وَتَفَوُّهَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ" [آل عمران: ١٨٥] «١» وقوله:" إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ «٢» مَيِّتُونَ" [الزمر: ٣٠] وما قاله ذلك اليوم- تنبه وَتَثْبِيتٌ وَقَالَ: كَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْ بِالْآيَةِ إِلَّا مِنْ أَبِي بَكْرٍ. وَخَرَجَ النَّاسُ يَتْلُونَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، كَأَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَمَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِلَا اخْتِلَافٍ، فِي وَقْتِ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ فِي هِجْرَتِهِ حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ، وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَقِيلَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ. وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَرْثِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
---------------
(١). راجع ص ٢٩٧ من هذا الجزء، وج ١١ ص ٢٨٧.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٥٤.
الصفحة 223