كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)

وَيَنْقُصُ بِتَوَالِي الْغَفَلَاتِ عَلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ. أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو الْمَعَالِي. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِيهِ: (فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ يَا رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ فَيَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتِنَا ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ في قلبه مثقال نصف دينار من خير فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ «١». وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ، كَالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْخَوْفِ وَالنَّصِيحَةِ وَشَبَهِ ذَلِكَ. وَسَمَّاهَا إِيمَانًا لِكَوْنِهَا فِي مَحَلِّ الْإِيمَانِ أَوْ عُنِيَ بِالْإِيمَانِ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ الشَّيْءِ إِذَا جَاوَرَهُ، أَوْ كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ. دَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُ الشافعين بَعْدَ إِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ: (لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا) مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ بَعْدَ ذَلِكَ جُمُوعًا كَثِيرَةً مِمَّنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ مُؤْمِنُونَ قَطْعًا، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لَمَا أَخْرَجَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ الْوُجُودِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُرَكَّبُ «٢» عَلَيْهِ الْمِثْلُ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ. وَقُدِّرَ ذَلِكَ فِي الْحَرَكَةِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا خَلَقَ عِلْمًا فَرْدًا وَخَلَقَ مَعَهُ مِثْلَهُ أَوْ أَمْثَالَهُ بِمَعْلُومَاتٍ فَقَدْ زَادَ عِلْمُهُ، فَإِنْ أَعْدَمَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فَقَدْ نَقَصَ، أَيْ زَالَتِ الزِّيَادَةُ. وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَقَ حَرَكَةً وَخَلَقَ مَعَهَا مِثْلَهَا أَوْ أَمْثَالَهَا. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ وَنَقْصَهُ إنما هو من طَرِيقُ الْأَدِلَّةِ، فَتَزِيدُ الْأَدِلَّةُ عِنْدَ وَاحِدٍ فَيُقَالُ فِي ذَلِكَ: إِنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى- عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ- فُضِّلَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى الْخَلْقِ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، أَكْثَرَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي عَلِمَهُ الْخَلْقُ بِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْآيَةِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْأَدِلَّةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْإِيمَانِ
إِنَّمَا هِيَ بِنُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَخْبَارِ فِي مُدَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر.
---------------
(١). بقيته" فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نذر فيها خبرا" مسلم ج ١ ص ١١٦.
(٢). في ز: يتركب. ()

الصفحة 281