كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)
الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
" مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ." حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ". وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ:" لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ" مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ مِمَّنْ يُؤْمِنُ. أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أَوْلَادَكُمُ الَّذِينَ حَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَعَلَى هَذَا (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ) كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ. أَيْ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِ بِالْمُنَافِقِ، حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَكُمْ بِالْمِحْنَةِ وَالتَّكْلِيفِ، فَتَعْرِفُوا الْمُنَافِقَ الْخَبِيثَ، وَالْمُؤْمِنَ الطَّيِّبَ. وَقَدْ مَيَّزَ يَوْمُ أُحُدٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَعَانِي. (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَيِّنَ لَكُمُ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى تَعْرِفُوهُمْ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ لَكُمْ بِالتَّكْلِيفِ وَالْمِحْنَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا وَأَظْهَرُوا الشَّمَاتَةَ، فَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ هَذَا الْغَيْبَ قَبْلَ هَذَا، فَالْآنَ قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَحْبَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى" لِيُطْلِعَكُمْ" أَيْ وَمَا كَانَ [اللَّهُ] «١» لِيُعْلِمَكُمْ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ. فَقَوْلُهُ:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ [عَلَى الْغَيْبِ] «٢» " عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مُنْقَطِعٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: لِمَ لَمْ يُوحَ إِلَيْنَا؟ قَالَ:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ" أَيْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ النُّبُوَّةَ، حَتَّى يَكُونَ الْوَحْيُ بِاخْتِيَارِكُمْ. (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي) أَيْ يَخْتَارُ (مِنْ رُسُلِهِ) لِإِطْلَاعِ غَيْبِهِ (مَنْ يَشاءُ) يُقَالُ: طَلَعْتُ عَلَى كَذَا وَاطَّلَعْتُ [عَلَيْهِ] «٣»، وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِ غيري، فهو لازم ومتعد. وقرى" حَتَّى يَمِيزَ" بِالتَّشْدِيدِ مِنْ مَيَّزَ، وَكَذَا فِي" الْأَنْفَالِ" «٤» وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ. وَالْبَاقُونَ" يَمِيزَ" بِالتَّخْفِيفِ مِنْ مَازَ يَمِيزُ. يُقَالُ: مِزْتُ الشَّيْءَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ أَمِيزُهُ مَيْزًا، وَمَيَّزْتُهُ تَمْيِيزًا. قَالَ أَبُو مُعَاذٍ: مِزْتُ الشَّيْءَ أَمِيزُهُ مَيْزًا إِذَا فَرَّقْتُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. فَإِنْ كَانَتْ أَشْيَاءً قُلْتُ: مَيَّزْتُهَا تَمْيِيزًا. وَمِثْلُهُ إِذَا جَعَلَتُ الْوَاحِدَ شَيْئَيْنِ قُلْتُ: فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا، مُخَفَّفًا، وَمِنْهُ فَرَّقَ الشَّعْرَ. فَإِنْ جَعَلْتُهُ أَشْيَاءً قُلْتُ: فَرَّقْتُهُ تَفْرِيقًا. قُلْتُ: وَمِنْهُ امْتَازَ الْقَوْمُ، تَمَيَّزَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. وَيَكَادُ يَتَمَيَّزُ: يَتَقَطَّعُ، وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ" [الملك: ٨] «٥» وَفِي الْخَبَرِ (مَنْ مَازَ أَذًى عَنِ الطَّرِيقِ فهو له صدقة).
---------------
(١). وز وهـ وج.
(٢). وز وهـ وج.
(٣). وز وهـ وج.
(٤). راجع ج ٧ ص ٤٠٠.
(٥). راجع ج ١٨ ص ٢١٨.
الصفحة 289
328