كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 4)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فَأَجْرُ الْمُؤْمِنِ ثَوَابٌ، وَأَجْرُ الْكَافِرِ عِقَابٌ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِالنِّعْمَةِ وَالْبَلِيَّةِ فِي الدُّنْيَا أَجْرًا وَجَزَاءً، لِأَنَّهَا عَرْصَةُ الْفَنَاءِ. (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أَيْ أُبْعِدَ. (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) ظَفِرَ بِمَا يَرْجُو، وَنَجَا مِمَّا يَخَافُ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَأَنْ يُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ (. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ" فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ" (. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أَيْ تَغُرُّ الْمُؤْمِنَ وَتَخْدَعُهُ فَيَظُنُّ طُولَ الْبَقَاءِ وَهِيَ فَانِيَةٌ. وَالْمَتَاعُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ، كَالْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالْقَصْعَةِ ثُمَّ يَزُولُ وَلَا يَبْقَى مِلْكُهُ، قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: كَخَضُرَةِ النَّبَاتِ، وَلَعِبِ الْبَنَاتِ لَا حَاصِلَ لَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَتَاعٌ مَتْرُوكٌ تُوشِكُ أَنْ تَضْمَحِلَّ بِأَهْلِهَا، فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ هَذَا الْمَتَاعِ بِطَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَا اسْتَطَاعَ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
هِيَ الدَّارُ دَارُ الْأَذَى وَالْقَذَى ... وَدَارُ الْفِنَاءِ وَدَارُ الْغِيَرْ «١»
فَلَوْ نِلْتَهَا بِحَذَافِيرِهَا ... لَمُتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرْ
أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُولَ الْخُلُودْ ... وَطُولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْ
إِذَا أَنْتَ شِبْتَ وَبَانَ الشَّبَابْ ... فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ
وَالْغَرُورُ (بِفَتْحِ الْغَيْنِ) الشَّيْطَانُ، يَغُرُّ النَّاسَ بِالتَّمْنِيَةِ وَالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْغُرُورُ مَا رَأَيْتَ لَهُ ظَاهِرًا تُحِبُّهُ، وَفِيهِ بَاطِنٌ مَكْرُوهٌ أَوْ مَجْهُولٌ. وَالشَّيْطَانُ غَرُورٌ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى مَحَابِّ النَّفْسِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَا يَسُوءُ. قَالَ: وَمِنْ هَذَا بَيْعُ الْغَرَرِ، وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ ظَاهِرُ بَيْعٍ يغر وباطن مجهول.
---------------
(١). في ج: العبر.

الصفحة 302