كتاب البداية والنهاية ط الفكر (اسم الجزء: 4)

فَنَظَرَ إِلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ فَقَالَ «الْآنَ حَمِيَ الوطيس» قال فو الله ما رَاجِعَةُ النَّاسِ إِلَّا وَالْأُسَارَى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَتَّفُونَ، فَقَتَلَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ، وَانْهَزَمَ مِنْهُمْ مَنِ انْهَزَمَ، وَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ. وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَأَقَرَّ بِهَا عَيْنَهُ، خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ وَخَرَجَ مَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا رَكِبَانًا وَمُشَاةً حَتَّى خَرَجَ النِّسَاءُ يَمْشِينَ عَلَى غَيْرِ دِينٍ نُظَّارًا يَنْظُرُونَ وَيَرْجُونَ الْغَنَائِمَ وَلَا يَكْرَهُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الصَّدْمَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالُوا وَكَانَ مَعَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَهُوَ مُشْرِكٌ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، قَالُوا وَكَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ وَمَعَهُ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ يَرْعَشُ مِنَ الْكِبَرِ، وَمَعَهُ النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ وَالنَّعَمُ، فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ عينا فبات فيهم فسمع مالك ابن عَوْفٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إِذَا أَصْبَحْتُمْ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَاكْسِرُوا أَغْمَادَ سُيُوفِكُمْ وَاجْعَلُوا مَوَاشِيَكُمْ صَفًّا وَنِسَاءَكُمْ صَفًّا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا اعْتَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَصَفْوَانُ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَرَاءَهُمْ يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ وَصَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغْلَةً لَهُ شَهْبَاءَ فَاسْتَقْبَلَ الصُّفُوفَ فَأَمَرَهُمْ وَحَضَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَبَشَّرَهُمْ بِالْفَتْحِ- إِنْ صَبَرُوا- فبينما هم كذلك إذ حَمَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً ثُمَّ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَقَالَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ: لَقَدْ حَزَرْتُ مَنْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدْبَرَ النَّاسُ فَقُلْتُ مِائَةُ رَجُلٍ، قَالُوا وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فقال ابشر بهزيمة محمد وأصحابه فو الله لَا يَجْتَبِرُونَهَا أَبَدًا، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: تُبَشِّرُنِي بظهور الأعراب فو الله لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبٍّ من الأعراب، وغضب صفوان لذلك. قال عروة وَبَعَثَ صَفْوَانُ غُلَامًا لَهُ فَقَالَ اسْمَعْ لِمَنِ الشِّعَارُ؟ فَجَاءَهُ فَقَالَ سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: ظَهَرَ مُحَمَّدٌ وَكَانَ ذَلِكَ شِعَارَهُمْ فِي الْحَرْبِ. قَالُوا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا غَشِيَهُ الْقِتَالُ قَامَ فِي الرِّكَابَيْنِ وَهُوَ عَلَى الْبَغْلَةِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ يَدْعُوهُ يَقُولُ «اللَّهمّ إِنِّي أَنْشُدُكَ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهمّ لَا يَنْبَغِي لهم أن يظهروا علينا» ونادى أصحابه وزمرهم «يَا أَصْحَابَ الْبَيْعَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ اللَّهَ اللَّهَ الْكَرَّةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ» وَيُقَالُ حَرَّضَهُمْ فَقَالَ «يَا أَنْصَارَ اللَّهِ وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ يَا بَنِي الْخَزْرَجِ يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» وَأَمَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُنَادِي بِذَلِكَ، قَالُوا وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الحصباء فحصب بها وجوه المشركين ونواصيهم كُلَّهَا وَقَالَ «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» وَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ سِرَاعًا يَبْتَدِرُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» فَهَزَمَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَصَبَهُمْ مِنْهَا وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ وَغَنَّمَهُمُ اللَّهُ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَفَرَّ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ حَتَّى دَخَلَ حِصْنَ الطَّائِفِ هُوَ وَأُنَاسٌ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ، وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ رَأَوْا نَصْرَ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الصفحة 330