كتاب حاشية البجيرمي على الخطيب = تحفة الحبيب على شرح الخطيب (اسم الجزء: 4)

وَسُمِّيَ الزَّرَّاعُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْبَذْرَ. وَتَنْقَسِمُ الْكَفَّارَةُ إلَى نَوْعَيْنِ: مُخَيَّرَةٌ فِي أَوَّلِهَا وَمَرْتَبَةٌ فِي آخِرِهَا وَهِيَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَمُرَتَّبَةٌ فِي كُلِّهَا وَهِيَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَالظِّهَارِ. وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَخِصَالُهَا ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ (عِتْقُ رَقَبَةٍ) لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلِلرَّقَبَةِ الْمُجْزِئَةِ فِي الْكَفَّارَةِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا شَرْطَيْنِ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (مُؤْمِنَةٍ) وَلَوْ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ تَبَعًا لِلسَّابِي أَوْ الدَّارِ، قَالَ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَمَّا كَفَّارَةُ الْخَطَأِ فَأَيْنَ الذَّنْبُ الَّذِي تَسْتُرُهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ شَأْنُهَا ذَلِكَ، أَوْ الْغَالِبُ فِيهَا ذَلِكَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِسِتْرِهَا الذَّنْبَ أَيْ مَحْوِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا جَابِرَةٌ كَسُجُودِ السَّهْوِ، وَيُجْبَرُ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ فِي الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ.
وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، أَوْ تَخَفُّفُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا زَاجِرَةٌ كَالْحُدُودِ لِأَنَّ بِسَبَبِهَا يَنْزَجِرُ الْإِنْسَانُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمُوجِبِ لَهَا. قَوْلُهُ: (وَمُرَتَّبَةٌ فِي آخِرِهَا) : بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ لِلصَّوْمِ إلَّا إذَا عَجَزَ عَنْ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ زِيَادِيٌّ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْبَرِيُّ: وَمِمَّا يُنْسَبُ لِلْكَمَالِ بْنِ أَبِي شَرِيفٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
ظِهَارًا وَقَتْلًا رَتَّبُوا وَتَمَتُّعًا ... وَصَوْمًا كَمَا التَّخْيِيرُ فِي الصَّيْدِ وَالْأَذَى
وَفِي حَالِفٍ بِاَللَّهِ رَتِّبْ وَخَيِّرَنْ ... فَذَلِكَ سَبْعٌ إنْ حَفِظْت فَحُبِّذَا
فَقَوْلُهُ فِي النَّظْمِ: وَصَوْمًا الْمُرَادُ بِهِ كَفَّارَةُ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَقَوْلُهُ: رَتِّبْ وَخَيِّرَنْ لَوْ قَالَ خَيِّرْ فَرَتِّبَنْ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّهَا مُخَيِّرَةٌ ابْتِدَاءً مُرَتِّبَةٌ انْتِهَاءً فَتَأَمَّلْ.
قَوْلُهُ: (الْقَتْلِ) قَدَّمَهُ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ وَلِأَنَّ فِي دَلِيلِهِ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ بِالْمُؤْمِنَةِ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ مَقِيسَةٌ عَلَيْهِ فِي التَّقْيِيدِ وَالْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَقِيسِ.
قَوْلُهُ: (وَخِصَالُهَا ثَلَاثَةٌ) هَذَا كُلُّهُ فِي الْحُرِّ الرَّشِيدِ، وَمِنْهُ الذِّمِّيُّ فَيُكَفِّرُ بِالْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ لِصِحَّتِهِمَا مِنْهُ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ وَلَا يَتَأَتَّى إطْعَامُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الصَّوْمِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُسَلِّمَ وَيَصُومَ فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ الْوَطْءَ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ وَيَصُومَ ثُمَّ يَطَأُ، أَمَّا الرَّقِيقُ: فَلَا يُكَفِّرُ إلَّا بِالصَّوْمِ، لِإِعْسَارِهِ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْهُ إذَا أَضْعَفَهُ عَنْ الْخِدْمَةِ لِتَضَرُّرِهِ بِدَوَامِ التَّحْرِيمِ وَالْمُبَعَّضُ كَالْحُرِّ إلَّا فِي الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، وَأَمَّا السَّفِيهُ فَبَحَثَ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّهُ إنَّمَا يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ، إنَّهُ كَالْمُعْسِرِ حَتَّى لَوْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ لَكِنْ رَدَّهُ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ هُنَا بِالْمَالِ. كَمَا فِي الْقَتْلِ، لَكِنَّ الْمُخْرِجَ لَهُ وَهُوَ وَلِيُّهُ وَالنَّاوِي هُوَ السَّفِيهُ، وَفُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَالْأَيْمَانِ بِفُرُوقٍ، مِنْهَا تَكْرَارُ الْأَيْمَانِ عَادَةً فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ جَعْلِهِ فِيهَا كَالْمُعْسِرِ جَعَلُهُ فِي الظِّهَارِ كَالْمُعْسِرِ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَالْمُكَلَّفُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ عَادَةً، سم مَعَ تَصَرُّفٍ. وَقَوْلُهُ وَمِنْهُ الذِّمِّيُّ فَيُكَفِّرُ بِالْإِعْتَاقِ إلَخْ وَيُمْكِنُ مِلْكُهُ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، كَأَنْ يُسْلِمَ عَبْدُهُ أَوْ عَبْدُ مُوَرِّثِهِ فَيَمْلِكُهُ أَوْ يَقُولُ الْمُسْلِمُ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنْ كَفَّارَتِي فَيُجِيبُهُ وَهَذِهِ إحْدَى الصُّوَرِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الْمُسْلَمُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ.
وَقَدْ جَمَعَهَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
وَمُسْلِمٌ يَدْخُلُ مِلْكِ كَافِرٍ ... فِي الْإِرْثِ وَالرَّدُّ بِعَيْبٍ ظَاهِرُ
إقَالَةٌ وَفَلَسٌ وَمَا وُهِبَ ... أَصْلٌ وَمَا اسْتَعْقَبَ عِتْقًا بِسَبَبٍ
وَقَوْلُهُ: وَمَا اسْتَعْقَبَ إلَخْ يَدْخُلُ فِيهِ ثَلَاثِ صُوَرٍ، مِلْكُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ وَالْبَيْعُ بِشَرْطِ الْإِعْتَاقِ.
قَوْلُهُ: (عِتْقُ رَقَبَةٍ) بِمَعْنَى إعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَلَوْ مَغْصُوبَةً وَآبِقَةً وَمَرْهُونَةً وَالرَّاهِنُ مُوسِرٌ وَجَانِيَةً وَمُتَحَتِّمًا قَتَلَهَا فِي حِرَابَةٍ وَإِنْ كَانَ الْإِعْتَاقُ فِي دَفْعَتَيْنِ كَأَنْ مَلَكَ مُعْسِرٌ نِصْفَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ مَلَكَ نِصْفَهُ الْآخَرَ فَأَعْتَقَهُ فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا عِنْدَ إعْتَاقِ بَاقِيهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْهَا. اهـ. سم. وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ مُلَفَّقَةً مِنْ شَخْصَيْنِ، بِأَنْ مَلَكَ نِصْفَيْ رَقِيقَيْنِ وَبَاقِيهِمَا أَوْ بَاقِي أَحَدِهِمَا فَقَطْ حُرٌّ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا أَمَّا إذَا كَانَ بَاقِيهِمَا رَقِيقًا فَيَفْصِلُ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا صَحَّ الْعِتْقُ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ يَسْرِي إلَى الْبَاقِي وَإِلَّا فَلَا.
قَوْلُهُ: (مُؤْمِنَةٍ) أَيْ فَلَا تُجْزِئُ الْكَافِرَةُ، وَيَنْبَغِي أَخْذًا مِمَّا ذُكِرَ فِي الْمَرِيضِ إذَا شُفِيَ مِنْ الْإِجْزَاءِ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ كَافِرًا فَتَبَيَّنَ إسْلَامَهُ الْإِجْزَاءُ، وَمِثْلُهُ أَيْضًا مَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَ مُوَرِّثِهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ فَبَانَ مَيِّتًا كَمَا فِي عش عَلَى مَرَّ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مُؤْمِنَةٍ: أَيْ

الصفحة 17