كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 4)

حضرت الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، فَيَلِجُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَهْدٌ، إِلَى أَنْ يَجِدُوا السَّبِيلَ إِلَيْهِ انْتَهَى.
وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَقِرَاءَتِهِ: ميثاق جاؤوكم بِغَيْرِ وَاوٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ جاؤوكم بَيَانًا لِيَصِلُونَ، أَوْ بَدَلًا، أَوِ اسْتِئْنَافًا، أَوْ صِفَةً بَعْدَ صِفَةٍ لِقَوْمٍ انْتَهَى. وَهِيَ وُجُوهٌ مُحْتَمَلَةٌ، وَفِي بَعْضِهَا ضَعْفٌ. وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْبَدَلُ، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَتَأَتَّى لِكَوْنِهِ لَيْسَ إِيَّاهُ، وَلَا بَعْضًا، وَلَا مُشْتَمِلًا. وَمَعْنَى حَصِرَتْ: ضَاقَتْ، وَأَصْلُ الْحَصْرِ فِي الْمَكَانِ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ فِي الْقَوْلِ. قَالَ:
وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِرًا بِسِرِّكَ يَا أُمَيْمُ ضَنِينَا
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَرِهَتْ. وَالْمَعْنَى: كَرِهُوا قِتَالَكُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ مَعَكُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ، فَيَكُونُونَ لَا عَلَيْكُمْ وَلَا لَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
حَصِرَتْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَيَعْقُوبُ: حَصْرَةٌ عَلَى وَزْنِ نَبْقَةٍ، وَكَذَا قَالَ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ: حَصِرَاتٍ. وَقُرِئَ: حَاصِرَاتٍ.
وَقُرِئَ: حَصْرَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، أَيْ: صُدُورُهُمْ حَصْرَةٌ، وَهِيَ جُمْلَةٌ اسمية في موضع الحال. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَجُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
فَمَنْ شَرَطَ دُخُولَ قَدْ عَلَى الْمَاضِي إِذَا وَقَعَ حَالًا زَعَمَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهَا، فَقَدْ جَاءَ مِنْهُ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً بِغَيْرِ قَدْ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ اسْمًا مَنْصُوبًا، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا هُوَ الْحَالُ، وَهَذَا الْفِعْلُ صِفَتُهُ أَيْ: أو جاؤوكم قَوْمًا حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَرَدَّ الْفَارِسِيُّ عَلَى الْمُبَرِّدِ فِي أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ: اللَّهُمَّ أَوْقِعْ بَيْنَ الْكُفَّارِ الْعَدَاوَةَ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: أو يقاتلوا قومهم، نفي مَا اقْتَضَاهُ دُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَخْرُجُ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ تَعْجِيزٌ لَهُمْ، وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ تَحْقِيرٌ لَهُمْ، أَيْ: هُمْ أَقَلُّ وَأَحْقَرُ، وَيُسْتَغْنَى عَنْهُمْ كَمَا تَقُولُ إِذَا أَرَدْتَ هَذَا الْمَعْنَى: لَا جَعَلَ اللَّهُ فُلَانًا عَلَيَّ وَلَا مَعِي، بِمَعْنَى: أَسْتَغْنِي عَنْهُ، وَأَسْتَقِلُّ دُونَهُ. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ: أَوْ تَكُونُ سُؤَالًا لِمَوْتِهِمْ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قَوْمَهُمْ، قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مَنْ لَيْسُوا مِنْهُمْ، بَلْ عَنْ مُعَادِيهِمْ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَصِرَتْ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لقوم، وأو جاؤوكم مُعْتَرِضٌ. قَالَ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ أَسْقَطَ أَوْ، وَهُوَ أُبَيٌّ.
وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حَصِرَتْ بَدَلًا من جاؤوكم، قَالَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ الْمَجِيءَ مُشْتَمِلٌ

الصفحة 14