كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 4)

فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالًا طَوَّلُوا بِهَا وَمُلَخَّصُهَا:
أَنَّهُمْ قَوْمٌ أَسْلَمُوا فَاسْتَوْبَئُوا الْمَدِينَةَ فَخَرَجُوا، فَقِيلَ لِهُمْ: أَمَا لَكُمْ فِي الرَّسُولِ أُسْوَةٌ؟ أَوْ نَاسٌ رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ لَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ، وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. أَوْ نَاسٍ بِمَكَّةَ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ يُعِينُونَ الْكُفَّارَ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ. قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ:
خَرَجُوا لِحَاجَةٍ لَهُمْ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اخْرُجُوا إِلَيْهِمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَدُوَّكُمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَيْفَ نَقْتُلُهُمْ وَقَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ؟ رَوَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْ قَوْمٌ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ فَأَظْهَرُوا الشِّرْكَ، أَوْ قَوْمٌ أَعْلَنُوا الْإِيمَانَ بِمَكَّةَ وَامْتَنَعُوا مِنَ الْهِجْرَةِ قَالَهُ: الضَّحَّاكُ. أَوِ الْعُرَنِيُّونَ الَّذِينَ أَغَارُوا عَلَى السَّرْحِ وَقَتَلُوا يَسَارًا، أَوِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ.
وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، يَرُدُّهُ قَوْلُهُ: حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» إِلَّا إِنْ حَمَلْتَ الْمُهَاجَرَةَ عَلَى هِجْرَةِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ اخْتِلَافَهُمْ فِي نِفَاقِ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ النِّفَاقُ أَيْ: مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ النِّفَاقُ قُطِعَ بِنِفَاقِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا بَادِيًا نِفَاقُهُمْ، لَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسم النفاق. وفي الْمُنَافِقِينَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَكُمْ، وَهُوَ كَائِنٌ أَيْ: أَيْ شَيْءٌ كَائِنٌ لَكُمْ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ. أَوْ بِمَعْنَى فِئَتَيْنِ أَيْ: فِرْقَتَيْنِ فِي أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ. وَانْتَصَبَ فِئَتَيْنِ عَلَى الْحَالِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي لَكُمْ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْعَامِلُ فِي لَكُمْ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ أَيْ: كنتم فئتين.
ويجيزون مالك الشَّاتِمَ أَيْ: كُنْتَ الشَّاتِمَ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ حَالٌ، وَالْحَالُ لَا يَجُوزُ تَعْرِيفُهَا.
وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَيْ: رَجَّعَهُمْ وَرَدَّهُمْ فِي كُفْرِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَوْبَقَهُمْ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ أَضَلَّهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. أَوْ أَهْلَكَهُمْ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ نَكَّسَهُمْ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ. وَمَنْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِهْلَاكِ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِلَازِمِ الْإِرْكَاسِ. وَمَعْنَى بِمَا كَسَبُوا أَيْ: بِمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَذَلِكَ الْإِرْكَاسُ هُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَاخْتِرَاعِهِ، وَيُنْسَبُ لِلْعَبْدِ كَسْبًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أَيْ: رَدَّهُمْ فِي حُكْمِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانُوا بِمَا كَسَبُوا مِنِ ارْتِدَادِهِمْ، وَلُحُوقِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ، وَاحْتِيَالِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ أركسهم في الكفر
__________
(1) سورة النساء: 4/ 89.

الصفحة 8