كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 4)

ومن الأنبياءِ قبلَه، فما حكاه عن نفسِه -صلى الله عليه وسلم-: "إن عينيَّ تنامان، ولا ينامُ قلبي" (¬١)، فأطلق ذلك عن نفسِه إطلاقًا غيرَ مُقيَّدٍ بوقتٍ. وفي حديثٍ آخرَ: "إنَّا معشرَ الأنبياءِ تنامُ أعينُنا ولا تنامُ قلوبُنا" (¬٢). فأخبر أن كلَّ الأنبياءِ كذلك. وممَّا يُصحِّحُ ذلك قولُه -صلى الله عليه وسلم- لأصحابِه: "تراصُّوا في الصَّفِّ؛ فإنِّي أراكم من وراء ظهري" (¬٣). فهذه جِبلَّتُه وخِلْقتُه وعادتُه -صلى الله عليه وسلم-.
فأمَّا نومُه في السفرِ عن الصلاةِ، فكانَ خَرْقَ عادتِه ليَسُنَّ لأمَّتِه، ويُعرِّفَهم بما يجِبُ على مَن نام منهم عن صلاتِه حتى يخرُجَ وقتُها، وكيف العملُ في ذلك، وجعَل اللهُ نومَه سببًا لما جرَى له في ذلك اليوم من تعليمِه أُمَّتَه وتبصيرِهم. وقد ذكرنا الآثارَ الواردةَ في هذا المعنى، في بابِ زيدِ بنِ أسلمَ من هذا الكتابِ (¬٤)، ولا سبيلَ إلى حملِها على الائتلافِ والاتفاقِ إلّا على ما ذكرناه، وغيرُ جائزٍ حملُ أخبارِه، إذا صحَّت عنه، على التناقضِ عندَ أهلِ الإسلام، لأنه لا يجوزُ فيها النَّسخ.
حدَّثنا أحمدُ بنُ عبدِ الله (¬٥)، قال: حدَّثنا الحُسينيُّ، قال: حدَّثنا الطَّحاويُّ،
---------------
(¬١) أخرجه مالك في الموطأ ١/ ١٧٧ (٣١٥) عن سعيد بن أبي سعيد المقبُريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها. وقد سلف تمام تخريجه مرارًا، وهو الحديث الرابع من أحاديث سعيد بن أبي سعيد المقبُري عن أبي سلمة، وسيأتي مع مزيد كلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.
(¬٢) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى ١/ ١٧١ عن الفضل بن دُكين، عن طلحة بن عمرو، عنه مرسلًا.
(¬٣) أخرجه أحمد في المسند ١٩/ ٦٩ (١٢٠١١)، والبخاري (٧١٨) و (٧٢٥)، ومسلم (٤٣٤) من حديث حُميد بن أبي حُميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه.
(¬٤) سلف ذلك عند الحديث الخامس من أحاديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار.
(¬٥) هو أحمد بن عبد الله بن محمد، أبو عمر الباجيّ (جذوة المقتبس، ص ١٨٦ بتحقيقنا)، والحُسَينيّ شيخه: هو الميمون بن حمزة، وشيخه الطحاويّ: هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المصريّ المعروف بالطحاوي صاحب "شرح المشكل"، والمُزنيّ: هو إسماعيل بن يحيى، أبو إبراهيم المُزنيّ صاحب "مختصر المُزنيّ" المشهور، وصاحب الإمام الشافعيّ.

الصفحة 357