كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 4)

وفي هذا الحديثِ مِن الفِقْهِ أيضًا: أنَّ حُضورَ الجماعةِ ليس بفَرْضٍ؛ لأنّه لو كان فرضًا ما كانَ أحدٌ ليُباحَ له ما يحبِسُه عن الفرضِ، وقد أباحَتِ السُّنةُ لآكِلِ الثُّوم التَّأخُّرَ عن شُهودِ الجماعَةِ، وقد بيَّنا أن أكلَه مُبَاحٌ، فدَلَّ ذلك على ما وصفنا، وبالله عِصْمَتُنا. ألا تَرى أن الجُمُعةَ إذا نُودِيَ لها، حَرُمَ على المسلمينَ مِن أهلِ الحضَر كلُّ ما يحبِسُ عنها مِن بَيع وقُعُودٍ ورُقادٍ وصلاةٍ، وكُلُّ ما يَشْتَغِلُ به المرءُ عنها؟ وكذلك مَن كانَ مِن أهلِ المِصْرِ حاضِرًا فيه، لا عُذْرَ له في التَّخَلُّفِ عن الجُمُعَةِ؛ أنّه لا يحِلُّ له أن يُدخِلَ على نَفْسِه ما يحبِسُه عنها، فلو كانت الجماعةُ فرضًا، لكانَ أكْلُ الثُّوم في حينِ وقتِ الصَّلاةِ حرامًا، وقد ثبَتَتْ إباحَتُه، فدلَّ ذلك على أنَّ حُضُورَ الجماعةِ ليس بفَرْض، واللهُ أعلمُ. وإنّما حُضورُها سُنةٌ وفَضِيلَةٌ وعمَلُ بِرٍّ. وممَّا يَدُلُّ على أن حُضورَ الجماعَةِ ليس بفَرْضٍ، قولُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حَضَرَ العَشاءُ، وسَمِعْتُم الإقامَةَ بالصلاةِ، فابدؤُوا بالعَشَاءِ" (¬١).
وفي الحديثِ المذكورِ أيضًا مِن الفقهِ: أن آكِلَ الثُّوم يُبعَدُ مِن المسْجِدِ ويُخرَجُ عنه؛ لأن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَقْرَبْ مسجدَنا -أو مساجدَنا- لأنّه يُؤْذِينا بريح الثُّوم"، وإذا كانت العِلَّةُ في إخراجِه مِن المسجدِ أنّه يُتأذَّى به، ففي القياسِ أن كلَّ ما يَتأذَّى به جِيرانُه في المسجدِ؛ بأنْ يكونَ ذَرِبَ اللِّسانِ (¬٢)، سَفِيهًا عليهم في المسجدِ مُسْتَطيلًا، أو كان ذا ريحَةٍ قَبِيحَةٍ لا تَرِيمُه (¬٣) لسُوء صِناعَتِه، أو عاهَةٍ مُؤذِيةٍ كالجُذَام وشِبْهِه، وكلِّ ما يتأذَّى به الناسُ إذا وُجِد في
---------------
(¬١) أخرجه الحميدي في مسنده (١١٨١)، وأحمد في المسند ١٩/ ١٣١ (١٢٠٧٦)، ومسلم (٥٥٧) من طريق سفيان الثَّوريّ عن محمد بن شهاب الزُهريِّ عن أنسٍ رضي الله عنه.
(¬٢) وذَرْبُ اللسانِ: حِدَّتُه، ينظر: الصحاح (ذرب).
(¬٣) أي: لا تَبْرَحُه، مِنَ الرَّيْم: وهو البَراح، يقال: ما يَريمُ يفعل ذلك؛ أي: ما يَبْرح. ينظر: اللسان (ريم).

الصفحة 389