كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 4)

{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: ١٠] إنّما هو استئنافُ كلام للدُّعاءِ لهم بدعائِهم لِمَن سبَقهم بالإيمانِ، لا لغير ذلك.
قالوا: وليس يخْلو فعلُ عُمرَ رضي اللهُ عنه في توقيفه الأرضَ مِن أحدِ وجهَين:
إمَّا أن تكونَ غنيمةً استطاب أنفُسَ أهلِها، فطابَتْ بذلك، فوقَفها، وكذلك روى جريرٌ: أنَّ عمرَ استطاب نفوسَ أهلِها (¬١)، وكذلك صنَع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في سَبْي هَوازِنَ؛ استطابَ أنفُسَ الغانِمين عمَّا كان بأيديهم، على ما نقَله ثِقاتُ العلماءِ، وإمَّا (¬٢) أن يكونَ ما وقَفه عمرُ فيئًا، فلم يحتَجْ في ذلك إلى مُراضاةِ أحدٍ.
---------------
(¬١) أخرجه الشافعيّ في الأمّ ٤/ ٢٩٧ - ٢٩٨، وأبو عُبيد القاسم بن سلّام في الأموال (١٥٤)، وابن زنجوية في الأموال (٢٣٤)، وابن المنذر في الأوسط ٦/ ٣٢ (٦٤٢٤)، وابن حزم في المحلّى ٥/ ٤١٢ (ط دار الفكر)، والبيهقي في الكبرى ٩/ ١٣٥ (١٨٨٣٩) من طرقٍ عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله، قال: كانت بَجِيلةُ رُبعَ الناس يوم القادسية، فقسمَ لهم عمر رُبُعَ السَّواد، فاستغلُّوا ثلاثَ أو أربع سنين -أنا شككت- ثم قدمتُ على عمرَ بنِ الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومعي فلانة ابنة فلان، امرأة منهم لا يحضُرني ذكْرُ اسمِها، فقال عمرُ بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "لولا أنّي قاسمٌ مسؤولٌ لتركتكُم على ما قُسِم لكم، ولكنّي أرى أن تردُّوا على الناسِ"؛ لفظُ الشافعيِّ والبيهقيّ، ووقع عند الآخرين "سنتين أو ثلاثًا" بدل: "ثلاث أو أربع سنين" وبزيادة: ففَعَل ذلك جريرٌ، فأجازه عمر بثمانين دينارًا. ورجال إسناده ثقات، إسماعيل بن أبي خالد: هو الأحمسيُّ. وقال ابن حزم: "وهذا أصحُّ ما رُويَ عن عمرَ في ذلك".
وقال الشافعيُّ بإثره: "وفي هذا الحديث دلالةٌ إذْ أعطى جريزا البَجَليَّ عِوَضًا من سَهِمِه، والمرأةَ من سَهْم أبيها: أنه استطابَ أنفُسَ الذين أوجفُوا عليه، فتركوا حقوقَهم منه، فجَعَله وقفًا للمسلمين".
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ٦/ ٢٢٥ بعد أن ساق قول الشافعيِّ: "وتُعقِّب بأنه مخالف لتقليل عمرَ بقوله: "لولا آخِرُ المسلمين؛ لكن يُمكن أن يُقال: معناه لولا آخِرُ المسلمينَ ما استَطبْتُ أنفُسَ الغانمين".
(¬٢) من هنا إلى آخر الفقرة لم يرد في د ١.

الصفحة 432