كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 4)

وأمَّا قولُه في هذا الحديثِ: "أُقرُّكم ما أقرَّكم اللهُ" فالمعنى في ذلك، واللهُ أعلمُ، أنّه -صلى الله عليه وسلم- كان يكرَهُ أن يكونَ بأرضِ العربِ غيرُ المسلمينَ، وكان يحبُّ ألّا يكونَ فيها دينانِ، كنحوِ محبَّتِه في استقبالِ الكعبةِ، حتى نزَلتْ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: ١٤٤]. وكان لا يتقدَّمُ في شيءٍ إلّا بوحي، وكان يرجو أنْ يحقِّقَ اللهُ رغبتَه ومحبَّته، فذكر لليهودِ ما ذكر، منتظرًا للقضاءِ فيهم بإخراجِهم عن أرضِ العرب، فلمْ يُوحَ إليه في ذلك شيءٌ إلى أنْ حضَرتْه الوفاةُ، فأتاه في ذلك ما أتاهُ، فذكر ألا يبقَى دينانِ بأرضِ العربِ، وأوصَى بذلك. وقد ذكرنا جُملًا من هذا المعنى فيما سلَف مِن كتابِنا هذا (¬١)، عن ابنِ شهابٍ في هذا الحديثِ، ما يدُلُّ على نحوِ ما قلْنا.
ذكر عبدُ الرزاقِ (¬٢)، قال: حدَّثنا معمرٌ، عن الزُّهريِّ، عن ابنِ المسيِّب، أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دفَع خيبرَ إلى اليهودِ على أنْ يعمَلُوا فيها ولهم شطرُها. قال: فمفَى على ذلك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكرٍ، وصدرًا مِن خلافةِ عمرَ، ثم أُخبرَ عمرُ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال في وجَعِه الذي مات فيه: "لا يجتمِعُ دينانِ بأرضِ الحجازِ"، أو قال: "بأرضِ العربِ"، ففَحَص عنه حتى وجَد عليه (¬٣) الثَّبَتَ، فقال: مَن كان عندهَ عهدٌ مَن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فليأتِ به، وإلّا فإنِّي مُجْلِيكم. فأجْلاهم عمرُ.
قال عبدُ الرَّزَّاقِ (¬٤): وأنبأنا ابنُ جريج، قال: أنبأنا موسى بنُ عقبةَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، أنَّ عمرَ أجلى اليهودَ والنصارَى مِن أرضِ الحجازِ، وكان
---------------
(¬١) ينظر ذلك فيما سلف في الحديث الثاني من مرسل، إسماعيل بن أبي حكيم عن عمر بن عبد العزيز.
(¬٢) في المصنّف ٤/ ١٢٥ (٧٢٠٨) و ٨/ ٩٨ (١٤٤٦٨) و ١٠/ ٣٦٠ (١٩٣٦٩).
(¬٣) شبه الجملة لم يرد في د ١.
(¬٤) في المصنّف ٦/ ٥٥ (٩٩٨٩).

الصفحة 435