كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 4)

وقد قيل: إنَّ خرصَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- على اليهودِ كان مِن أجل الزكاةِ الواجبةِ في تلك الثمرةِ، لا لغيرِ ذلك، واللهُ أعلمُ، فكان يبعَثُ مَن يخرُصُ الثِّمارَ على أربابِها، توسعةً عليهم ورفقًا بهم؛ لأنَّهم لو مُنِعوا مِن أجلِ سهم المساكينِ مِن أكلِها رطبًا، ومِن التَّصرُّفِ فيها بالصِّلةِ والصَّدقةِ والأكلِ، لأضَرَّ بهم ذلك، وكانت عليهم فيه مشقَّةٌ كبيرةٌ، ولو تُركوا والتَّصرُّفَ فيها بالأكلِ وغيرِه لأضَرَّ ذلك بالمساكينِ، وأتلِفَ كثيرٌ ممَّا تجِبُ فيه الزَّكاةُ، ولهذا ما كان توجيهُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- للخارصِ، وإرسالُه إيَّاه لذلك، واللهُ أعلمُ. والأصلُ أنَّ أربابَ الأموالِ أمناءُ، والخرصُ لا يُخرِجُهم عن ذلك؛ لأنَّهم لم يُخرَصْ عليهم إلّا رفقًا بهم، وإحسانًا إليهم، على حسَبِ ما ذكرنا مِن إطلاقِهم للتَّصرُّفِ في ثمارِهم، وحفظِ ما يجبُ للمساكينِ فيها مِن حينِ طيبِها، فإنْ تبيَّنَ لربِّ المالِ بعدَ الخرصِ زيادةٌ على ما خرَص الخارصُ أدَّاها؛ لأنَّ الخرصَ حكم على الظَّاهرِ والاجتهادِ، فإذا جاءتِ الحقيقةُ بخلافِ ذلك رُجع إليها. وفي هذا اختلافٌ بينَ السَّلفِ والخلفِ، والصَّوابُ ما ذكَرتُ لك، واللهُ أعلم.
---------------
= وقد تعرَّض النوويُّ لِمَا ورد عن الشافعيِّ من وجهين في هذه المسألة، ونقل عن المروزيِّينَ من أصحاب المذهب الشافعي تأوُّلهم لقوله الثاني كالقاضي حسين وغيره، فقال: "ومنهم مَنْ يؤؤل نصَّ الشافعيِّ على ما إذا باع الشجرةَ معلقًا، ثمّ اشترى من المشتري الطَّلْعَ، فإنّه يجوز بشرط القَطْع؛ هكذا قال القاضي حسين وَغيرُه، وممَّن جزم بظاهِرِ النصِّ الماورديُّ على ما حكى الرُّويانيُّ عنه".
ثم نقل عن العراقيِّينَ من أصحاب المذهب الشافعيِّ إنكارَ ما نُقل عنه في كتاب الصَّرْف الذي أشار إليه المصنِّف، فقال: "لكنّ أكثرَ العراقيِّينَ جازمون بإنكار ذلك، وأنَّ ما نُقِل عن كتاب الصَّرْفِ خطأٌ في النَّقْل، لأنّ حرملةَ نَقَل: إذا كان اشتراها على أن يقطَعها، فإنِ اشتراها على أن يُقرَّها فلا خيرَ في البيع. فوقع الخطأُ في النَّقْل من قوله: "اشترى" إلى قوله: "استثنى"، ووافَقَهم القَفّالُ على هذا في كلام طويل ذكره في بيان أوجُه الخلاف بين أصحاب المذهب فيما نُقل عن الشافعي في هذه المسألة. ينظر: المجموع شرح المهذب ١١/ ٣٤٧ - ٣٥٠.

الصفحة 440