كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 4)
الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَالصَّائِمُ لَا تَصْدُرُ مِنْهُ الْأَفْعَالُ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْهَا الْجَوَابُ خُصُوصًا الْمُقَاتَلَةَ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُفَاعَلَةِ التَّهَيُّؤُ لَهَا أَيْ إِنْ تَهَيَّأَ أَحَدٌ لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ كَالصَّائِلِ هَذَا فِيمَنْ يَرُومُ مُقَاتَلَتَهُ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَاتَلَهُ شَاتَمَهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّعْنِ وَاللَّعْنُ مِنْ جُمْلَةِ السَّبِّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّتْمِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ هَلْ يُخَاطِبُ بِهَا الَّذِي يُكَلِّمُهُ بِذَلِكَ أَوْ يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُتَوَلِّي وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ فِي الْأَذْكَارِ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ أَقْوَى وَلَوْ جَمَعَهُمَا لَكَانَ حَسَنًا وَلِهَذَا التَّرَدُّدِ أَتَى الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بِالِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ بَابٌ هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ وَقَالَ الرُّويَانِيُّ إِنْ كَانَ رَمَضَانُ فَلْيَقُلْ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَلْيَقُلْهُ فِي نَفسه وَادّعى بن الْعَرَبِيِّ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي التَّطَوُّعِ وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ فَيَقُولُهُ بِلِسَانِهِ قَطْعًا وَأَمَّا تَكْرِيرُ قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ فَلْيَتَأَكَّدِ الِانْزِجَارُ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ يُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ يَقُولُهُ مَرَّةً بِقَلْبِهِ وَمَرَّةً بِلِسَانِهِ فَيَسْتَفِيدُ بِقَوْلِهِ بِقَلْبِهِ كَفَّ لِسَانِهِ عَنْ خَصْمِهِ وَبِقَوْلِهِ بِلِسَانِهِ كَفَّ خَصْمِهِ عَنْهُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقَوْلَ حَقِيقَةً بِاللِّسَانِ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمَجَازَ وَقَوْلُهُ قَاتَلَهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَتْلِ لَعْنٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الشَّتْمِ وَلَا يُمْكِنُ حمل قَاتله وشاتمه على المفاعلة لِأَن الصَّائِم مَأْمُور بِأَن الصَّائِمَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى إِذَا جَاءَهُ مُتَعَرِّضًا لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ كَأَنْ يَبْدَأَهُ بِقَتْلٍ أَوْ شَتْمٍ اقْتَضَتِ الْعَادَةُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالْمُفَاعَلَةِ إِرَادَةُ غَيْرِ الصَّائِمِ ذَلِكَ مِنَ الصَّائِمِ وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُفَاعَلَةُ عَلَى التَّهَيُّؤِ لَهَا وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ مِنْ وَاحِدٍ وَقَدْ تَقَعُ الْمُفَاعَلَةُ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ كَمَا يُقَالُ لِوَاحِدٍ عَالَجَ الْأَمْرَ وَعَافَاهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ الْمُرَادُ إِذَا بَدَرَتْ مِنَ الصَّائِمِ مُقَابَلَةُ الشَّتْمِ بِشَتْمٍ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبْعِ فَلْيَنْزَجِرْ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ وَمِمَّا يُبَعِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فَإِنْ شَتَمَهُ شَتَمَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ بِذَلِكَ فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ كَالصَّائِلِ هَذَا فِيمَنْ يَرُومُ مُقَاتَلَتَهُ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَاتَلَهُ شَاتَمَهُ فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ قَوْلُهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا قَوْلُهُ لَخُلُوفُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا فَاءٌ قَالَ عِيَاضٌ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ وَبَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهُوَ خَطَأٌ وَحَكَى الْقَابِسِيُّ الْوَجْهَيْنِ وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ فَتْحُ الْخَاءِ وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمَصَادِرَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ قَلِيلَةٌ ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَغَيُّرُ رَائِحَةِ فَمِ الصَّائِمِ بِسَبَبِ الصِّيَامِ قَوْلُهُ فَمُ الصَّائِم فِيهِ رد على من قَالَ لاتثبت الْمِيمُ فِي الْفَمِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشَّعْرِ لِثُبُوتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الْخُلُوفِ أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ اسْتِطَابَةِ الرَّوَائِحِ إِذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيَوَانِ وَمَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى أَوْجُهٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ مِنَّا فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِلصَّوْمِ لِتَقْرِيبِهِ مِنَ اللَّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَكُمْ أَيْ يُقَرَّبُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيبِ الْمِسْكِ إِلَيْكُمْ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بن عَبْدِ الْبَرِّ وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ فِي حق الْمَلَائِكَة
الصفحة 105