كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 4)

وَاكْتَفَى بِهِ عَنْ بَيَانِ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ لِأَنَّ بَيَانَ أَحَدِهِمَا بَيَانٌ لِلْآخَرِ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْفَجْرِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ قَوْلُهُ مِنَ الْفَجْرِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ إِلَى التَّشْبِيهِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ رَأَيْتُ أَسَدًا مَجَازٌ فَإِذَا زِدْتَ فِيهِ مِنْ فُلَانٍ رَجَعَ تَشْبِيهًا ثُمَّ قَالَ كَيْفَ جَازَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْعَبَثَ لِأَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ مِنَ الْفَجْرِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الْحَقِيقَةُ وَهِيَ غَيْرُ مُرَادَةٍ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ مَنْ لَا يُجَوِّزُهُ وَهُمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ حَدِيثُ سَهْلٍ وَأَمَّا مَنْ يُجَوِّزُهُ فَيَقُولُ لَيْسَ بِعَبَثٍ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ وُجُوبَ الْخِطَابِ وَيَعْزِمُ عَلَى فِعْلِهِ إِذَا اسْتَوْضَحَ الْمُرَادَ بِهِ انْتهى وَنَقله نفى التَّجْوِيزِ عَنِ الْأَكْثَرِ فِيهِ نَظَرٌ كَمَا سَيَأْتِي وَجَوَابُهُ عَنْهُمْ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ مَرْدُودٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَمَسْأَلَةُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَقد حكى بن السَّمْعَانِيِّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ أَرْبَعَةَ أوجه الْجَوَاز مُطلقًا عَن بن سُرَيج والاصطخرى وبن أبي هُرَيْرَة وبن خَيْرَانَ وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَالصَّيْرَفِيِّ ثَالِثُهَا جَوَازُ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ دُونَ الْعَامِّ رَابِعُهَا عَكْسُهُ وَكِلَاهُمَا عَن بعض الشَّافِعِيَّة وَقَالَ بن الْحَاجِبِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ إِلَّا عِنْدَ مُجَوِّزِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ يَعْنِي وَهُمُ الْأَشَاعِرَةُ فَيُجَوِّزُونَهُ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ لَمْ يَقَعْ قَالَ شَارِحُهُ وَالْخِطَابُ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ ضَرْبَان أَحدهمَا مَاله ظَاهِرٌ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي خِلَافِهِ وَالثَّانِي مَا لَا ظَاهِرَ لَهُ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْخطاب وَاخْتَارَهُ الْفَخر الرَّازِيّ وبن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمْ وَمَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ كُلُّهُمْ إِلَى امْتِنَاعِهِ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ يَمْتَنِعُ فِي غَيْرِ الْمُجْمَلِ وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ وَإِنَّمَا حَمَلَ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ عَلَى ظَاهِرِهِمَا بَعْضُ مَنْ لَا فِقْهَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ كَالرِّجَالِ الَّذِينَ حُكِيَ عَنْهُمْ سَهْلٌ وَبَعْضُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي لُغَتِهِ اسْتِعْمَالُ الْخَيْطِ فِي الصُّبْحِ كَعَدِيٍّ وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ وَالدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ وَأَنَّ الْحُكْمَ كَانَ أَوَّلًا عَلَى ظَاهِرِهِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْخَيْطَيْنِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا نُقِلَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ جَوَازِ الْأَكْلِ إِلَى الْإِسْفَارِ قَالَ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الْفَجْرِ قُلْتُ وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَنَّ بِلَالًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَسَحَّرُ فَقَالَ الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَاللَّهِ أَصْبَحْتَ فَقَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا لَوْلَا بِلَالٌ لَرَجَوْنَا أَنْ يُرَخَّصَ لَنَا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ وُجُوبُ التَّوَقُّفِ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ وَطَلَبُ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهَا وَأَنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى أَظْهَرِ وُجُوهِهَا وَأَكْثَرِ اسْتِعْمَالَاتِهَا إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْبَيَانِ وَقَالَ بن بَزِيزَةَ فِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِلُوا أَوَّلًا عَلَى مَا سَبَقَ إِلَى أَفْهَامِهِمْ بِمُقْتَضَى اللِّسَانِ فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ بَابِ تَأْخِيرِ مَاله ظَاهِرٌ أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ ظَاهِرِهِ قُلْتُ وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فَعَلُوا مَا نَقَلَهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَفِيهِ نَظَرٌ وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ غَايَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ طُلُوعُ الْفَجْرِ فَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فَنَزَعَ تَمَّ صَوْمُهُ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ أَكَلَ ظَانًّا أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ التَّبْيِينُ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ بن عَبَّاس قَالَ أحل اللَّهُ لَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا شَكَكْتَ وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ نَحْوُهُ وروى بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الضُّحَى قَالَ سَأَلَ رجل بن عَبَّاسٍ عَنِ السُّحُورِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ كل حَتَّى لَا تشك فَقَالَ بن عَبَّاسٍ إِنْ هَذَا لَا يَقُولُ شَيْئًا كُلْ مَا شَككت حَتَّى لَا تشك قَالَ بن الْمُنْذِرِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ صَارَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ

الصفحة 135