كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 4)

قِلَابَةَ وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ وَاحْتَجُّوا لِلتَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إِذَا أقبل اللَّيْل من هَا هُنَا وَأدبر النَّهَار من هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ إِذْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّيْلَ مَحَلًّا لِسِوَى الْفِطْرِ فَالصَّوْمُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِوَضْعِهِ كَيَوْمِ الْفِطْرِ وَأَجَابُوا أَيْضًا بِأَنَّ قَوْلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ لَا يَمْنَعُ التَّحْرِيمَ فَإِنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ أَنْ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا مُوَاصَلَتُهُ بِهِمْ بَعْدَ نَهْيِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَقْرِيرًا بَلْ تَقْرِيعًا وَتَنْكِيلًا فَاحْتَمَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ لِأَجْلِ مُصْلِحَةِ النَّهْيِ فِي تاكيد زجرهم لأَنهم إِذا باشروه ظَهَرَتْ لَهُمْ حِكْمَةُ النَّهْيِ وَكَانَ ذَلِكَ أُدْعَى إِلَى قُلُوبِهِمْ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَلِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ وَأَرْجَحُ مِنْ وَظَائِفِ الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْجُوعُ الشَّدِيدُ يُنَافِي ذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْوِصَالَ يَخْتَصُّ بِهِ لِقَوْلِهِ لَسْتُ فِي ذَلِكَ مِثْلَكُمْ وَقَوْلُهُ لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ هَذَا مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مِنِ اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ قُلْتُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي قَدَّمْتُ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّمِ الْوِصَالَ وَرَوَى الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ وَلَيْسَ بِالْعَزِيمَةِ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ اللَّهَ قَدْ قَبِلَ وِصَالَكَ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ فَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجَوَازِ إِقْدَامُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْوِصَالِ بَعْدَ النَّهْيِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ وَإِلَّا لَمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ سَوَّى فِي عِلَّةِ النَّهْيِ بَيْنَ الْوِصَالِ وَبَيْنَ تَأْخِيرِ الْفِطْرِ حَيْثُ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَحْرِيمِ تَأْخِيرِ الْفِطْرِ سِوَى بَعْضِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَا فِيهِ مِنْ فَطْمِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَقَمْعِهَا عَنْ مَلْذُوذَاتِهَا فَلِهَذَا اسْتَمَرَّ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ اسْتِوَاءُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ثَبَتَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ بِدَلِيلٍ وَفِيهِ جَوَازُ مُعَارَضَةِ الْمُفْتِي فِيمَا أَفْتَى بِهِ إِذَا كَانَ بِخِلَافِ حَالِهِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَفْتِي بِسِرِّ الْمُخَالَفَةِ وَفِيهِ الِاسْتِكْشَافُ عَنْ حِكْمَةِ النَّهْيِ وَفِيهِ ثُبُوتُ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ مَخْصُوصٌ وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى فِعْلِهِ الْمَعْلُومِ صِفَتُهُ وَيُبَادِرُونَ إِلَى الِائْتِسَاءِ بِهِ إِلَّا فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ وَفِيهِ أَنَّ خَصَائِصَهُ لَا بتأسى بِهِ فِي جَمِيعِهَا وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقَالَ أَبُو شَامَةَ لَيْسَ لِأَحَدٍ التَّشَبُّهُ بِهِ فِي الْمُبَاحِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَيُسْتَحَبُّ التَّنَزُّهُ عَنِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِ وَالتَّشَبُّهُ بِهِ فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ كَالضُّحَى وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَالْوِصَالُ مِنْهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنْ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ لَمْ يُمْنَعِ الِائْتِسَاءُ بِهِ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِيهِ بَيَانُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِيجَادِ الْمُسَبَّبَاتِ الْعَادِيَاتِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بعده

الصفحة 205