كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 4)
فِيهَا وَجَمِيعُ هَذِهِ الصُّوَرِ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ وَقَصَرَ مَالِكٌ الْعَرِيَّةَ فِي الْبَيْعِ عَلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَقَصَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صُوَرِ الْبَيْعِ وَزَادَ أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا الرُّطَبَ وَلَا يَشْتَرُوهُ لِتِجَارَةٍ وَلَا ادِّخَارٍ وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ صُوَرَ الْبَيْعِ كُلَّهَا وَقَصَرَ الْعَرِيَّةَ عَلَى الْهِبَةِ وَهُوَ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ تَمْرَ نَخْلَةٍ مِنْ نَخْلِهِ وَلَا يُسَلِّمُ ذَلِكَ لَهُ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فِي ارْتِجَاعِ تِلْكَ الْهِبَةِ فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَحْتَبِسَ ذَلِكَ وَيُعْطِيَهُ بِقَدْرِ مَا وَهَبَهُ لَهُ مِنَ الرُّطَبِ بِخَرْصِهِ تَمْرًا وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَخْذُهُ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَتُعُقِّبَ بالتصريح باستثناء الْعَرَايَا فِي حَدِيث بن عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي حَدِيثِ غَيْرِهِ وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ أَنَّ مَعْنَى الرُّخْصَةِ أَنَّ الَّذِي وُهِبَتْ لَهُ الْعَرِيَّةُ لَمْ يَمْلِكْهَا لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْقَبْضِ فَلَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ بَدَلَهَا تَمْرًا وَهُوَ لَمْ يَمْلِكِ الْمُبْدَلَ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْبَدَلَ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى وَكَانَ رُخْصَةً وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ بَلْ مَعْنَى الرُّخْصَةِ فِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ مَأْمُورٌ بِإِمْضَاءِ مَا وَعَدَ بِهِ وَيُعْطِي بَدَلَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ مَا وَعَدَ بِهِ وَيُعْطِيَ بَدَلَهُ وَلَا يَكُونُ فِي حُكْمِ مَنْ أَخْلَفَ وَعْدَهُ ظَهَرَ بِذَلِكَ مَعْنَى الرُّخْصَةِ وَاحْتَجَّ لِمَذْهَبِهِ بِأَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرِيَّةَ الْعَطِيَّةُ وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ أَصْلِ الْعَرِيَّةِ الْعَطِيَّةَ أَنْ لَا تُطْلَقَ الْعَرِيَّةُ شَرْعًا عَلَى صُوَرٍ أُخْرَى قَالَ بن الْمُنْذِرِ الَّذِي رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْإِذْنُ فِي السَّلَمِ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عنْدك قَالَ فَمن أجَاز السّلم مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ وَمَنَعَ الْعَرِيَّةَ مَعَ كَوْنِهَا مُسْتَثْنَاةً مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فَقَدْ تَنَاقَضَ وَأَمَّا حَمْلُهُمُ الرُّخْصَةَ عَلَى الْهِبَةِ فَبَعِيدٌ مَعَ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ بِالْبَيْعِ وَاسْتِثْنَاءِ الْعَرَايَا مِنْهُ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْهِبَةَ لَمَا اسْتُثْنِيَتِ الْعَرِيَّةُ مِنَ الْبَيْعِ وَلِأَنَّهُ عَبَّرَ بِالرُّخْصَةِ وَالرُّخْصَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مَمْنُوعٍ وَالْمَنْعُ إِنَّمَا كَانَ فِي الْبَيْعِ لَا الْهِبَةِ وَبِأَنَّ الرُّخْصَةَ قُيِّدَتْ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ مَا دونهَا وَالْهِبَة لاتتقيد لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ ذِي رَحِمٍ وَغَيْرِهِ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الرُّجُوعُ جَائِزًا فَلَيْسَ إِعْطَاؤُهُ بِالتَّمْرِ بَدَلَ الرُّطَبِ بَلْ هُوَ تَجْدِيدُ هِبَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الرُّجُوعَ لَا يَجُوزُ فَلَا يَصِحُّ تَأْوِيلُهُمْ قَوْلُهُ وَقَالَ بن إِسْحَاق فِي حَدِيثه عَن نَافِع عَن بن عُمَرَ كَانَتِ الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي مَاله النَّخْلَة والنخلتين أما حَدِيث بن إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ فَوَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ دُونَ تَفْسِيرِ بن إِسْحَاقَ وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ فَوَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ بِلَفْظِ النَّخَلَاتِ وَزَادَ فِيهِ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ فَيَبِيعُهَا بِمِثْلِ خَرْصِهَا وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الصُّورَةِ الَّتِي قَصَرَ مَالِكٌ الْعَرِيَّةَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ وَقَالَ يَزِيدُ يَعْنِي بن هَارُونَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهَا فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاءُوا مِنَ التَّمْرِ وَهَذَا وَصَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا فِي الْعَرَايَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ فَذَكَرَهُ وَهَذِهِ إِحْدَى الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَاحْتَجَّ لِمَالِكٍ فِي قَصْرِ الْعَرِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ بِلَفْظِ يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا فَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ أَهْلُهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الَّذِي أَعْرَاهَا وَيُحْتَمَلُ أَن يُرَاد بالأهل من نصير إِلَيْهِ بِالشِّرَاءِ وَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ حَدِيثَ سَهْلٍ دَلَّ عَلَى صُورَةٍ مَنْ صُوَرِ الْعَرِيَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ التَّعَرُّضُ لِكَوْنِ غَيْرِهَا لَيْسَ عَرِيَّةً وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ تَقْيِيدُهَا بِالْمَسَاكِينِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ نَقْلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَ مَنْ أَثْبَتَهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ قُلْتُ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ قَالَ فُلَانٌ وَأَصْحَابُهُ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرُّطَبَ يَحْضُرُ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ يَشْتَرُونَ بِهَا مِنْهُ وَعِنْدَهُمْ فَضْلُ
الصفحة 392