كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 4)

(قَوْلُهُ بَابُ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ)
أَيْ فَهُوَ مَذْمُومٌ أَوْ بَابُ حُكْمِ مَنْ رَغِبَ عَنْهَا

[1874] قَوْلُهُ تَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ لَكِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَوْ مِنْ نَسْلِ الْمُخَاطَبِينَ أَوْ مِنْ نَوْعِهِمْ وَرُوِيَ يَتْرُكُونَ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ قَوْلُهُ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ أَيْ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ قَالَ الْقُرْطُبِيّ تبعا لعياض وَقد وُجِدَ ذَلِكَ حَيْثُ صَارَتْ مَعْدِنَ الْخِلَافَةِ وَمَقْصِدَ النَّاسِ وَمَلْجَأَهُمْ وَحُمِلَتْ إِلَيْهَا خَيْرَاتُ الْأَرْضِ وَصَارَتْ مِنْ أَعْمَرِ الْبِلَادِ فَلَمَّا انْتَقَلَتِ الْخِلَافَةُ عَنْهَا إِلَى الشَّامِ ثُمَّ إِلَى الْعِرَاقِ وَتَغَلَّبَتْ عَلَيْهَا الْأَعْرَابُ تَعَاوَرَتْهَا الْفِتَنُ وَخَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا فَقَصَدَتْهَا عَوَافِي الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ وَالْعَوَافِي جَمْعُ عَافِيَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَطْلُبُ أَقْوَاتِهَا وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ عَافٍ قَالَ بن الْجَوْزِيّ اجْتمع فِي العوافى شيآن أَحَدُهُمَا أَنَّهَا طَالِبَةٌ لِأَقْوَاتِهَا مِنْ قَوْلِكَ عَفَوْتُ فُلَانًا أَعْفُوهُ فَأَنَا عَافٍ وَالْجَمْعُ عُفَاةٌ أَيْ أَتَيْتُ أَطْلُبُ مَعْرُوفَهُ وَالثَّانِي مِنَ الْعَفَاءِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْخَالِي الَّذِي لَا أَنِيسَ بِهِ فَإِنَّ الطَّيْرَ وَالْوَحْشَ تَقْصِدُهُ لِأَمْنِهَا عَلَى نَفْسِهَا فِيهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ الرَّاعِيَيْنِ فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ ثُمَّ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمَا آخِرُ مَنْ يُحْشَرُ قُلْتُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى مَالِكٌ عَن بن حَمَاسٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَتَخْفِيفٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لَتَتْرُكُنَّ الْمَدِينَةَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ حَتَّى يَدْخُلَ الذِّئْبُ فَيَعْوِيَ عَلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالُوا فَلِمَنْ تَكُونُ ثِمَارُهَا قَالَ لِلْعَوَافِي الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ أَخْرَجَهُ مَعْنُ بْنُ عِيسَى فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَةٍ ثُمَّ لَقِيَنِي وَأَنَا خَارِجٌ مِنْ بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَأَخَذَ بِيَدِي حَتَّى أَتَيْنَا أُحُدًا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ وَيْلَ أُمِّهَا قَرْيَةٌ يَوْمَ يَدَعُهَا أَهْلُهَا كَأَيْنَعِ مَا يَكُونُ قُلْتُ يَا رَسُول الله من يَأْكُل ثَمَرهَا قَالَ عَافِيَةُ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْنَا فَقَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَيَدَعَنَّهَا أَهْلُهَا مُذَلَّلَةً أَرْبَعِينَ عَامًا لِلْعَوَافِي أَتَدْرُونَ مَا الْعَوَافِي الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ قُلْتُ وَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطْعًا وَقَالَ الْمُهَلَّبُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَدِينَةَ تُسْكَنُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ خَلَتْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِقَصْدِ الرَّاعِيَيْنِ بِغَنَمِهِمَا إِلَى الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالَّذِي قَبْلَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَتَرَتَّبُ الِاخْتِلَافُ الَّذِي حَكَيْتُهُ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ وَالنَّوَوِيِّ وَالثَّانِي أَظْهَرُ

الصفحة 90