كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 4)

يوسف الآية (31) شعف البعيرَ إذا هنَأَه فأحرقه بالقطِران وعن الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما الشغَفُ الحبُّ القاتل والشعف حبٌّ دون ذلك وكان الشعبي يقول الشغفُ حبٌّ والشعفُ جنون والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من فاعل تُراود أو من مفعوله وأيا ما كان فهو تكريرٌ لِلّوم وتأكيدٌ للعذْل ببيان اختلالِ أحوالِها القلبية كأحوالها القالَبية وجعلُها تعليلاً لدوام المراودةِ من حيث الإنية مصيرٌ إلى الاستدلال على الأجلي بالأخفى ومن حيث اللُمية ميلٌ إلى تمهيد العذر من قِبلها ولسْن بذلك المقام وانتصابُ حباً على التمييز لنقله عن الفاعلية إذ الأصل قد شغفها حبُّه كما أشير إليه
{إِنَّا لَنَرَاهَا} أي نعلمها علماً متاخماً للمشاهدة والعِيان فيما صنعت من المراودة والمحبة المفْرِطة مستقرةً
{فِى ضلال} عن طريق الرشد والصوابِ أو عن سنن العقل
{مُّبِينٌ} واضح لا يخفى كونُه ضلالاً على أحد أو مُظهرٍ لأمرها بين الناس فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع وتسجيلٌ عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم وإنما لم يقُلن إنها لفي ضلال مبين إشعاراً بأن ذلك الحكمَ غيرُ صادر عنهن مجازفةً بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزّهاتٌ عن أمثال ما هي عليه
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} باغتيابهن وسوء قالهن وقولِهن امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكنعاني وهو مَقَتها وتسميتُه مكراً لكونه خفيةً منها كمكر الماكر وإن كان ظاهراً لغيرها وقيل استكْتَمَتْهن سِرَّها فأفشَيْنه عليها وقيل إنما قلن ذلك لتُرِيَهُنّ يوسف عليه السلام
{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن قيل دعت أربعين امرأةً منهن الخمسُ المذكورات
{وَأَعْتَدَت} أي أحضرت وهيأت
{لهن متكأ} أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد أو رتبت لهن مجلس طعام وشراب لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشارب والحديث كعادة المترَفين ولذلك نُهي الرجلُ أن يأكل متّكِئاً وقيل متّكأ طعاماً من قولهم اتكأنا عند فلان أي طعِمنا قال جميل ... فظلِلْنا بنعمةٍ واتكأنا ... وشرِبْنا الحلالَ من قُلَلِهْ ...
وعن مجاهد متّكأً طعاماً يُحَزّ حزاً كأن المعنى يُعتمد بالسكين عند القطع لأن القاطعَ يتكىء على المقطوع بالسكين وقرىء بغير همز وقرىء بالمد بإشباع حركة الكاف كمُنتَزاح في مُنتزَح ويَنْباع في ينبع وقرأ مُتُكاً وهو الأُترُجّ وأنشدوا ... وأهدت مُتْكةً لبني أبيها ... تخُب بها العَثَمْثمَةُ الوَقاحُ ...
أو ما يقطع من متَك الشيءَ إذا بتكه ومتكأ من تكى إذا اتكى
{وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} لتستعمله في قطع ما يُعهد قطعُه مما قدّم بين أيديهن وقرِّب إليهن من اللحوم والفواكه ونحوها وهن متّكئات وغرضُها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن
{وَقَالَتِ} ليوسف وهن مشغولاتٌ بمعالجة السكاكين وإعمالِها فيما بأيديهن من الفواكه وأضرابها والعطفُ بالواو ربما يشير إلى أن قولها
{اخرج عَلَيْهِنَّ} أي ابرُزْ لهن لم يكن عَقيب ترتيب أمورِهن ليتم غرضُها من استغفالهن
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ} عطفٌ على مقدر يستدعيه الأمرُ بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه

الصفحة 271