كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 4)

يوسف الآية (101 102) أبيه ثلاثاً وعشرين سنة فلما تم أمرُه وعلِم أنه لا يدوم له تاقت نفسُه إلى المُلك الدائم الخالد فتمنى الموت فقال
{رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الملك} أي بعضاً منه عظيماً وهو ملكُ مصرَ
{وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} أي بعضاً من ذلك كذلك إن أريد بتعليم تأويلِ الأحاديث تفهيمُ غوامضِ أسرار الكتب الإلهية ودقائق سَننِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلام فالترتيبُ ظاهرٌ وأما إن أريد به تعليمُ تعبيرِ الرؤيا كما هو الظاهرُ فلعل تقديمَ إيتاءِ الملك عليه في الذكر لأنه بمقام تعدادِ النعم الفائضةِ عليه من الله سبحانه والمُلك أعرقُ في كونه نعمةً من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضاً نعمةً جليلةً في نفسه ولا يمكن تمشيةُ هذا الاعتذارِ فيما سبق لأن التعليمَ هناك واردٌ على نهج العلة الغائيةِ للتمكين فإن حُمل على معنى التمليك لزم تأخرُه عنه وأما الواقع ههنا فمجردُ التأخيرِ في الذكر والعطف بحرف الواو لا يستدعي ذلك الترتيبَ في الوجود
{فاطر السماوات وَالأَرْضِ} مُبدعَهما وخالقَهما نُصب على أنه صفةٌ للمنادى أو منادى آخرُ وصفه تعالى به بعد وصفِه بالربوبية مبالغةً في ترتيب مبادى ما يعقبُه من قوله
{أَنْتَ وَلِيِّي} مالكُ أموري
{فِى الدنيا والاخرة} أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما وإذ قد أتممتَ عليّ نعمة الدنيا
{تَوَفَّنِى} اقبِضْني
{مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامةِ فإنما تتم النعمةُ بذلك قيل لما دعا توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً فتخاصم أهلُ مصرَ في دفنه وتشاحّوا في ذلك حتى همّوا بالقتال فرأوا أن يصنعوا له تابوتاً من مَرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل ليمُرَّ عليه ثم يصلَ إلى مصر ليكونوا شرعاً واحداً في التبرك به ووُلد له أفراييم وميشا ولأفراييم نونٌ ولنونٍ يوشع فتى موسى عليه الصلاة والسلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيلَ تحت أيديهم على بقايا دين يوسفَ وآبائِه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام
{ذلك} إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسفَ وما فيه من معنى البُعد لما مر مرارا من الدِلالة على بُعد منزلتِه أو كونه بالانقضاء في حكم البعيدِ والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره
{من أَنبَاء الغيب} الذي لا يحومُ حولَهُ أحدٌ وقوله
{نُوحِيهِ إِلَيْكَ} خبرٌ بعد خبر أو حال من الضمير في الخبرِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ اسماً موصولا ومن أنباء الغيب صلتَه ويكون الخبرُ نوحيه إليك
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} يريد إخوةَ يوسف عليه الصلاة والسلام
{إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} وهو جعلهم إياه في غيابة الجب
{وَهُمْ يَمْكُرُونَ} به ويبغون له الغوائلَ حتى تقف على ظواهر أسرارِهم وبواطنها وتطّلع على سرائرهم طُراً وتحيط بما لديهم خُبراً وليس المرادُ مجردَ نفيَ حضورُه عليه الصَّلاة والسلام في مشهد إجماعِهم ومكرِهم فقط بل في سائر المشاهدِ أيضاً وإنما تخصيصُه بالذكر لكونه مطْلعَ القصة وأخفى أحوالِها كما ينبىء عنه قوله وهم يمكرون والخطابُ وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن

الصفحة 308