كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 4)

وحثٌّ لهم على المسارعة إلى الامتثال والمرادُ بالإيمان كمالُه أي إن كنتم كاملي الإيمانِ فإن كمالَ الإيمان يدور على هذه الخِصالِ الثلاثِ طاعةُ الأوامرِ واتقاءُ المعاصي وإصلاحُ ذاتِ البين بالعدل والإحسان
الأنفال (2 4)
{إِنَّمَا المؤمنون} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان مَنْ أريد بالمؤمنين بذكر أوصافِهم الجليلةِ المستتبِعةِ لما ذكر من الخِصال الثلاثِ وفيه مزيدُ ترغيبٍ لهم في الامتثال بالأوامر المذكورةِ أي إنَّما الكاملون في الإيمان المخلِصون فيه
{الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي فِزعت لمجرد ذكرِه من غير أن يُذكرَ هناك ما يوجب الفزَعَ من صفاته وأفعاله استعظاما لشأنه الجليلِ وتهيباً منه وقيل هو الرجلُ يُهمّ بمعصية فيقال له اتقِ الله فينزع عنها خوفها من عقابه وقرىء وجَلت بفتح الجيم وهي لغة وقرئ فرِقَتْ أي خافت
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} أيَّ آيةٍ كانت
{زَادَتْهُمْ إيمانا} أي يقيناً وطُمأنينةَ نفسٍ فإن تظاهُرَ الأدلةِ وتعاضُدَ الحُججِ والبراهينِ موجبٌ لزيادة الاطمئنانِ وقوة اليقين وقيل إن نفسَ الإيمانِ لا يقبل الزيادةَ والنقصانَ وإنما زيادتُه باعتبار زيادةِ المؤمَنِ به فإنه كلما نزلت آية صدّق بها المؤمنُ فزاد إيمانه عددا وأما نفسُ الإيمان فهو بحاله وقيل باعتبار أن الأعمالَ تُجعل من الإيمان فيزيد بزيادتها والأصوبُ أن نفسَ التصديقِ يقبل القوةَ وهي التي عُبّر عنها بالزيادة للفرق النيّر بين يقينِ الأنبياءِ وأربابِ المكاشفات ويقينِ آحادِ الأمةِ وعليه مبنى ما قال علي رضي الله عنه لو كُشفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقيناً وكذا بين ما قام عليه دليلٌ واحد وما قامت عليه أدلةٌ كثيرة
{وعلى رَبّهِمْ} مالكِهم ومدبرِ أمورِهم خاصة
{يَتَوَكَّلُونَ} يفوّضون أمورَهم لا إلى أحدٍ سواهُ والجملةُ معطوفةٌ على الصِّلةِ وقولُه تعالى
{الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} مرفوعٌ على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأول أو بدلٌ منه أو بيانٌ له أو منصوبٌ على القطع المنبئ عن المدح ذَكَر أولاً من أعمالهم الحسنةِ أعمالَ القلوب من الخشية والإخلاصِ والتوكل ثم عقّب بأعمال الجوارحِ من الصلاة والصدقة
{أولئك} إشارةٌ إلى مَن ذُكرت صفاتُهم الحميدةُ من حيث أنهم متصفون بها وفيهِ دلالةٌ على أنَّهم متمِّيزون بذلك عمن عداهم أكملَ تميُّز منتظِمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهم وبُعد منزلتِهم في الشرف
{هُمُ المؤمنون حَقّاً} لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال القلبية والقالَبية وحقاً صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً أو مصدرٌ مؤكدٌ للجملة أي حقَّ ذلك حقاً كقولك هو عبدُ الله حقاً
{لَّهُمْ درجات} من الكرامة والزلفى وقيل درجاتٌ عاليةٌ في الجنة وهو إما جملةٌ مبتدأةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من تعداد مناقبهم

الصفحة 4