كتاب الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (اسم الجزء: 4)

أُسْوَةُ جَمِيعِ الْعُدُولِ إنْ كَمُلَ النِّصَابُ بِشُرُوطِهِ رَجَمْنَاهُ، وَإِلَّا فَلَا فَكَذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ فُتِحَتْ مِصْرُ عَنْوَةً أَوْ مَكَّةُ شَهَادَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَةً فَهُوَ لَمْ يُبَاشِرْ الْفَتْحَ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ نَقَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَدْرِي هَلْ أَذِنَ لَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ فِي النَّقْلِ عَنْهُ أَمْ لَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فَقَدْ عَارَضَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةٌ أُخْرَى.
وَهِيَ أَنَّ اللَّيْثَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَالشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُمَا قَالُوا الْفَتْحُ وَقَعَ صُلْحًا فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ أَحَدَ الْبَيِّنَتَيْنِ أَعْدَلُ فَتُقَدَّمُ أَوْ يُقَالُ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَالْعُلَمَاءُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ نُفَاوِتَ نَحْنُ بَيْنَ عَدَالَتِهِمْ، وَلَوْ سَلَّمْنَا الْهُجُومَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِأَعْدَلَ الْبَيِّنَتَيْنِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ، وَالْعَنْوَةُ وَالصُّلْحُ لَيْسَا مِنْ هَذَا الْبَابِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ يُقْضَى فِيهِ بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لَيْسَتْ نَقْلًا عَنْ أَحَدٍ بَلْ هِيَ اسْتِقْلَالٌ، وَمُسْتَنَدُهَا السَّمَاعُ لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ، وَقَدْ عَدَّ الْأَصْحَابُ مَسَائِلَ السَّمَاعِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً لَيْسَتْ هَذِهِ مِنْهَا وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا مِنْهَا لَكِنْ حَصَلَ الْمُعَارِضُ الْمَانِعُ مِنْ الْحُكْمِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ لَك أَنَّ مَنْ أَفْتَى بِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ إنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً خَطَأٌ، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَذْهَبًا لِمَالِكٍ بَلْ هِيَ شَهَادَةٌ لَا يُقَلَّدُ فِيهَا بَلْ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَاتِ، وَكَمَا يَرِدُ هَذَا السُّؤَالُ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَنْوَةِ يَرِدُ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، وَيَبْنُونَ عَلَى ذَلِكَ الْفُتْيَا بِالْإِبَاحَةِ، وَيَجْعَلُونَ هَذَا مِمَّا يُقَلَّدُ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَهَادَةٌ أَيْضًا بِالصُّلْحِ، وَلَيْتَ شِعْرِي لَوْ أَنَّ حَاكِمًا شَافِعِيًّا جَاءَهُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ لَهُ إنَّ فُلَانًا صَالَحَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ نَقْدًا، وَقَدْ صَارَتْ خُلْعًا مِنْهُ هَلْ يَقْضِي بِقَوْلِهِ وَحْدَهُ فَيَخْرِقَ الْإِجْمَاعَ أَوْ نَقُولُ هَذِهِ شَهَادَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ آخَرَ مَعَ الشَّافِعِيِّ يَشْهَدُ بِالْخُلْعِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ هُنَا كَذَلِكَ، وَقَدْ بَسَطْت هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــSأُسْوَةُ جَمِيعِ الْعُدُولِ إلَى آخِرِ قَوْلِهِ أَوْ نَقُولُ هَذِهِ شَهَادَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ آخَرَ مَعَ الشَّافِعِيِّ يَشْهَدُ بِالْخُلْعِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ هُنَا كَذَلِكَ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَمَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى دَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَالِكٍ شَهَادَةٌ حَتَّى يَحْتَاجَ فِي ذَلِكَ إلَى آخَرَ مَعَهُ هَذَا كَلَامٌ مَبْنِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِ كَوْنِ قَوْلِ مَالِكٍ شَهَادَةٌ، وَذَلِكَ لِتَوَهُّمِ وَهْمٍ لَا شَكَّ فِيهِ قَالَ (وَقَدْ بَسَطْت هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى كُلٍّ إلَّا دَائِرًا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ الْبَيْعُ إنْ كَانَتْ الْمُعَاوَضَةُ عَنْ أَعْيَانٍ، وَالصَّرْفُ إنْ كَانَ فِيهِ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، وَالْإِجَارَةُ إنْ كَانَ عَنْ مَنَافِعَ، وَالْإِحْسَانُ إنْ كَانَ عَنْ بَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَهُوَ مَا يُسْقِطُهُ الْمُدَّعِي عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْلِ وَبِهِ صَرَّحَ عبق أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى غَيْرِ الثَّابِتَةِ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ صَرْفٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ بَلْ هُوَ دَفْعٌ عَنْ الْخُصُومَةِ نَظَرًا إلَى أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَصَّهُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ
(الْأَوَّلُ) أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ جَائِزًا عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي
(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ جَائِزًا عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُنْكِرَ يُقِرُّ
(وَالثَّالِثُ) أَنْ يَكُونَ جَائِزًا عَلَى ظَاهِرِ الْحُكْمِ قَالَ الْبُنَانِيُّ أَيْ عَلَى ظَاهِرِ مَا يَطْرَأُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُخَاصَمَةِ، وَمَجْلِسِ الْفَصْلِ، وَسَلَّمَهُ الرَّهُونِيُّ وَكَنُونِ، وَاعْتَبَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَقَطْ وَأَصْبَغُ أَمْرًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْ لَا تَتَّفِقَ دَعْوَاهُمَا عَلَى فَسَادٍ اُنْظُرْ شُرَّاحَ الْمُخْتَصَرِ فَلِذَا قَالَ الْأَصْلُ إنَّ الصُّلْحَ فِي الْأَمْوَالِ دَائِرٌ بَيْنَ خَمْسَةِ أُمُورٍ الْبَيْعِ إنْ كَانَتْ الْمُعَاوَضَةُ عَنْ أَعْيَانٍ، وَالصَّرْفِ إنْ كَانَ فِيهِ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، وَالْإِجَارَةِ إنْ كَانَ عَنْ مَنَافِعَ، وَدَفْعِ الْخُصُومَةِ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْإِحْسَانِ، وَهُوَ مَا يُعْطِيهِ الْمُصَالَحُ مِنْ غَيْرِ الْجَانِي فَمَتَى تَعَيَّنَ أَحَدُ هَذِهِ الْأَبْوَابِ رُوعِيَتْ فِيهِ شُرُوطُ ذَلِكَ الْبَابِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» اهـ.
مِنْهُ بِلَفْظِهِ يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَبَطَ شُرُوطَ الصُّلْحِ الْمُخْتَلِفَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الْعَدَوِيُّ عَلَى الْخَرَشِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ الْإِذْنُ فَلَا يُنَافِي قَوْلَ ابْنِ عَرَفَةَ الصُّلْحُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ مَنْدُوبٌ اهـ.
إذَا عَلِمْت هَذَا عَلِمْت أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِقَوْلِ الْإِمَامِ ابْنِ الشَّاطِّ مَا قَالَهُ أَيْ الْأَصْلُ فِيهِ أَيْ فِي هَذَا الْفَرْقِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْدِ فَرْقًا بَيْنَ الصُّلْحِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى حُكْمِ الصُّلْحِ، وَكَلَامُهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ اهـ بِلَفْظِهِ فَتَأَمَّلْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا
(وَصْلٌ) قَالَ الْحَفِيدُ فِي الْبِدَايَةِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ عَلَى الْإِنْكَارِ اهـ مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَنْ مَالٍ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ، وَلَا عَنْ الْيَمِينِ، وَإِلَّا لَجَازَتْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَهُ، وَلَجَازَ أَخْذُ الْعَقَارِ، وَالْمُصَالِحَ بِهِ بِالشُّفْعَةِ، وَقَدْ انْتَقَلَ بِغَيْرِ مَالٍ، وَلَا هُوَ عَنْ الْخُصُومَةِ، وَإِلَّا لَجَازَ عَنْ النِّكَاحِ وَالْقَذْفِ
(وَجَوَابُهُ)

الصفحة 6