كتاب فوات الوفيات (اسم الجزء: 4)

والفصل ربيع، ومنظر الروض بديع، والربى محضرة أكنافها، مائسة أعطافها، تبكي بها عيون السحاب فتتبسم، وتخلع (1) عليها ملابس السباب فتتقمص وتتعمم، فما أتينا على مكان إلا وجدنا غيره أحق بالثناء وأجدر، ولا أفل بدر من الزهر إلا بزغت شمس فقلنا هذا أكبر، حتى إذا بلغت النفس أمنيتها، وأقبلنا على دمشق فقبلنا ثنيتها، رأينا منظراً (2) يقصر عنه المتوهم، ويملأ عين الناظر المتوسم، ظل ظليل، ونسيم عليل، ومغنى (3) بنهاية الحسن كفيل، يطوى الحزن بنشره، ويقف قدر البلدان دون قدره، فيصغر عند صفته شعب بوان، ويغمد في مفاصله سيف غمدان، ويبهت لمباهاته ناظر الإيوان، فالأغصان مائسة في سندسيها، متظاهرة بفاخر حليها، قد ألقحتها الأنهار فأثقلتها بحملها، ولا عبتها الصبا فتلقت كل واحدة بمثلها:
لها ثمر تشير إليك منه ... بأشربة وقفن بلا أواني (4)
وأمواه يصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني فسرنا منها بين جنات، كظهور البزاة، وجداول كبطون الحيات، قد هز الشوق أطيارها فصدحت، وحرك النسيم رباها فنفحت، فحنت عليها أفنانها حنو الوالدات على اليتيم، وحجبت عن معارضتنا حاجب الشمس وأذنت للنسيم، فإذا أصابت شمسها فرجة لاحظتنا ملاحظة الحياء، وألقت فضة الماء شعاعها فصححت صنعة الكيمياء؛ ثم أفضينا إلى فضاء قد أثرى من الروض ثراه، وغني عن منة السحاب ذراه، قد تشابه فيه الشقيقان خداً وزهرا، واقترن به الياسمين أقاحاً وثغراً، وتغاير أخضراه آساً وعذارا،
__________
(1) ص: ويخلع.
(2) ص: منظر.
(3) ص: ومعنى.
(4) الشعر للمتنبي.

الصفحة 386