كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 4)

الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام، إذ كانت العرب هى التى جاءت به، وهى السلف والقدوة» (¬1). ومرّ بنا فى العصر العباسى الأول أن الزندقة إنما كان يوصم بها أولا من يتابعون مانى فى عقيدة النور والظلمة وما اتصل بها من مبادئ، بالضبط كما كانت تطلق عند الفرس. والزنادقة المعتنقون لهذه الأفكارهم الذين كانوا يحاكمون زمن المهدى وابنه الرشيد، ثم اتسع مدلولها فشملت كل من اعتنق نحلة فارسية من نحل المجوس كنحلة المزدكية وما دعت إليه من التحلل الخلقى والإباحية المسرفة، واتسعت أوسع من ذلك فشملت كل إلحاد بالدين الحنيف أو بالديانات مطلقا وكل مجاهرة بالعصيان والإثم والفسق. ومر بنا أيضا فى العصر العباسى الأول كيف أن المتكلمين-وفى مقدمتهم المعتزلة-تجردوا لجدالهم ونقض أقوالهم وآرائهم الخبيثة، وعقدوا لذلك مناظرات كانوا يفحمونهم فيها إفحاما شديدا، على نحو ما صوّر ذلك الجاحظ عن النظّام فى كتابه الحيوان، وألّفوا أيضا الكتب والرسائل الطوال.
ولم تهدأ حركة الإلحاد والزندقة فى هذا العصر التالى، بل لقد اشتد أوارها، إذ تحول كثيرون منهم إلى التشكيك فى النبوات عامة، وكان من أشدهم نفر بدءوا حياتهم فى صفوفهم المعتزلة، وما زالوا يبطنون الإلحاد حتى افتضح أمرهم وانكشف سرهم، وفى طليعتهم أبو عيسى الوراق المتوفى سنة 247 للهجرة (¬2) وكان فى أول أمره معتزليّا، وأحسّ المعتزلة فيه إلحاده فطردوه عنهم، فتحول شيعيّا رافضيّا، وينعته الخياط بأنه كان مانويّا يؤمن بأزلية النور والظلمة وقدم العالم (¬3)، ويبدو أنه أنكر النبوات وأن له فى ذلك بعض الرسائل (¬4). وقد أثر تأثيرا واسعا فى تلميذه أبى الحسين أحمد بن إسحق الرّاوندى (¬5) المولود فيما بين سنتى 205 و 215
¬_________
(¬1) الحيوان 7/ 220.
(¬2) مروج الذهب 4/ 23.
(¬3) كتاب الانتصار (طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 152.
(¬4) انظر مجموعة من النصوص غير المنشورة متعلقة بتاريخ التصوف فى الإسلام لماسينيون (طبع باريس 1929) ص 82.
(¬5) انظر فى ابن الراوندى وأستاذه أبى عيسى الوراق كتاب من تاريخ الإلحاد فى الإسلام لعبد الرحمن بدوى (نشر مكتبة النهضة المصرية) وانظر فى ترجمة ابن الراوندى ووفاته مروج الذهب 4/ 23 وابن خلكان ومعاهد التنصيص (طبعة بولاق) 1/ 76 ومرآة الجنان لليافعى 2/ 144، 237 والنجوم الزاهرة 3/ 175 وشذرات الذهب لابن العماد 2/ 235 ومقدمة نيبرج لكتاب الانتصار وتاريخ أبى الفدا فى عام 293.

الصفحة 101