كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 4)

الجبّائى. وكان أهم من ورث عن ابن الراوندى إلحاده وزندقته وطعنه على الدين الحنيف، بل على جميع الديانات الطبيب أبو بكر محمد (¬1) بن زكريا الرازى المتوفى سنة 320، وكان كيميائيّا ماهرا إلا أنه اتبع هواه وضل ضلالا بعيدا إذ مضى على هدى ابن الراوندى وأشباهه ينكر النبوات وألف فى ذلك كتابه «مخاريق الأنبياء» وسقط بدوره من يد الزمن، إلا أن أبا حاتم الرازى أورد فى كتابه «أعلام النبوة» اقتباسات كثيرة منه ردّ عليها ونقضها نقضا، وقد حلّلها الدكتور بدوى تحليلا (¬2) جيدا، وأظهر أنه يتابع فى حججه وأدلته ابن الراوندى، فالعقل يكفى وحده لمعرفة الخير والشر، ولا حكمة ولا داعى لإرسال الأنبياء، وأيضا لا معنى لأن يخصّ الله نفرا (يريد الأنبياء) من البشر لإرشادهم وتوجيههم، والناس جميعا متساوون فى الفطن والمواهب. وبرهانه المنكسر ما ذكره من أن الأنبياء متناقضون فيما بينهم، زاعما أن اختلافهم لم يصدروا فيه عن الله جاهلا بأنه كان من حكمة الله أن يحدث هذا الاختلاف تخفيفا على الناس ورحمة بهم.
وينقد الأديان عامة ويدخل فيها ديانات المجوسية، كما ينقد الكتب المقدسة، ويزعم أنها جميعها زاخرة بالتناقض، وأن خيرا منها للناس العلوم التى استنبطها الفلاسفة والعلماء بعقولهم. وهو خلط بين حاجات البشر المادية وحاجاتهم الروحية.
ولعل فى هذا كله ما يصور نشاط الملحدين والزنادقة فى العصر وكان لهم المعتزلة والمتكلمون بالمرصاد فنقضوا آراءهم وأوضحوا ما فيها من فساد وزيف ودحضوها دحضا.

5 - الزهد والتصوف
يجب ألا يتبادر إلى الأذهان من حديثنا عن الزندقة والشعوبية والمجون فى العصر العباسى الثانى أنه كان عصرا ملحدا غلبت عليه العنصرية كما غلب المجون
¬_________
(¬1) انظر فى ترجمته الفهرست ص 518 وابن أبى أصيبعة والقفطى ص 271 ودائرة المعارف الإسلامية.
(¬2) انظر كتاب من تاريخ الإلحاد فى الإسلام ص 198.

الصفحة 104