كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 4)

إذ كانت الخمر فى كل مكان ومعها القيان والجوارى المبتذلات، فكان طبيعيّا أن يعم كثير من الشعر الصريح، بل المفرط فى إباحيته وفى التعبير عن الغرائز الجسدية.
ولم يكن كل ما فى المدينتين العراقيتين الكبيرتين المجون وآثامه، بل كان هناك تقى كثير ونسك وعبادة، وهو ما حماهما من السقوط. على أن هؤلاء المجان والخلعاء تورطوا فى آفة مزرية، هى آفة الشغف بالغلمان المرد، وهى آفة ورثوها عن العصر العباسى الأول. على أن من أصحاب هذا الغزل المزرى من ارتفعوا به عن أدران المادة، وجعلوه غزلا أفلاطونيّا نقيّا، وسنفصل القول فى ذلك فى أثناء حديثنا عن شعراء الغزل، على نحو ما هو معروف عن الفقيه محمد بن داود الأصفهانى وتعلقه بمحمد بن جامع الصيدلانى. ولا بد أن نذكر أن كثيرين من الفقهاء وعلماء الدين والوعاظ كانوا لا يزالون يشدّدون النكير على المجون وما اتصل به من خمور ومن سماع، وبتأثيرهم حاول-كما قدمنا-المهتدى أن يحمل الناس على الجادة، فحرم الشراب ونهى عن القيان والسماع إليهن، غير أن العامة والخاصة استطالوا حكمه واحتال عليه الأتراك حتى قتلوه بعد سنة واحدة من خلافته، وصنع صنيعه بأخرة من العصر المتقى، ولكنه لقى سريعا المصير نفسه. ويذكر ابن الأثير أنه فى عام 323 للهجرة دبّر الحنابلة ببغداد حملة شعواء على المجون وفتشوا دور القواد والعامة، وكانوا كلما وجدوا نبيذا أراقوه أو آلة للغناء حطموها أو مغنية ضربوها، وحرّموا على الرجال رفقة الصبييان والغلمان (¬1).
وظلت مستعرة فى هذا العصر نيران الشعوبية على نحو ما كانت مستعرة فى العصر العباسى الأول، إذ مضى كثيرون يشيدون بفضائل الشعوب القديمة وحضارتها ومدنيتها، وفى مقدمتها الفرس بسياساتهم وآدابهم والروم بعلومهم وفلسفاتهم والهند بسحرها ومعارفها الرياضية وغير الرياضية. وانضم إلى هذه الدعوة كثيرون من أبناء الشعوب الأخرى، من النبط والسريان وغيرهما، منوهبن جميعا بما كان بديارهم من علوم وآداب وفنون وعمارة. وكأنما ذهبت أدراج الرياح مناداة الإسلام بهدم الفوارق العصبية بين القبائل والفوارق الجنسية بين الشعوب، وكأنما كان هؤلاء الشعوبيون يبتغون أن يحدثوا صدعا لا يلتئم ولا يمكن رأبه بين أفراد الأمة، وقد لجّوا فى
¬_________
(¬1) ابن الأثير 8/ 229 وما بعدها.

الصفحة 97