كتاب آثار ابن باديس (اسم الجزء: 4)

وهذا السر هو أنهم ما كانوا عليه من شرف النفس وعزتها والاعتداد بها هو الذي هيأهم لذلك ولو كانوا أذلاء لما تهيأوا لذلك العمل العظيم.
وانظروا واعتبروا ذلك بحال أمة هي أقرب أمة إلى العرب وهي أمة إسرائيل فإنها لم تكن مهيأة لإنقاذ غيرها. وإنما هيئت لإنقاذ نفسها فقط لأن مقوماتها النفسية لم تصل بها إلى تلك الدرجة العليا: ولذلك عانى موسى معها ما عانى مما قصه القرآن علينا لنعتبر به في الحكم على الأمم.
ولا حاجة إلى التطويل في الحديث عن بني إسرائيل فإن القرآن قد فصل لنا شؤونهم تفصيلا وإنما أنبهكم على هذا الفارق الجوهري بين الأمتين.
وقد تقولون إن بني إسرائيل اختارهم الله وفضلهم على العالمين, والجواب الذي يشهد له الواقع أنه اختارهم لينقذوا أنفسهم من استعباد فرعون وليكونوا مظهرا للنبوة والدين في أول أطوارهما وأضيق أدوارهما وهذا هو الواقع فإن الأمة العربية استطاعت أن تنهض بالعالم كله وأن تظهر دين الله على الدين كله, وأما بنو إسرائيل فإنهم ما استطاعوا أن ينهضوا حتى بأنفسهم وإنما نهض بهم موسى نهضة قائمة على الخوارق وما نهضوا بأنفسهم إلا بعد موسى بزمن مع اتصال حبل النبوة فيهم ومغاداة الوحي الإلهي ومراوحته لهم.
فالأمتان العربية والإسرائيلية متمايزتان بحديث القرآن عنهما وإذا تلمسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنهم غير مستعدين للقيام بنهضة عالمية عامة وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوة في أبلغ بيان, في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ

الصفحة 62